أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

لمّا تزاوَجَ السِّحرُ و الدَّهشة .. كانتْ الـشّـام ...نائل شيخ خليل

كُلّما تفكّرتُ بنعمةِ الانتماءِ و الانتسابِ لوطنٍ بحجمِ و مكانةِ و أصالةِ سورية ، كُنتُ أتورّطُ بلُعبةٍ جَميلةٍٍ و صَعبةٍ كنتُ ألعبُها مع روحي ، حيثُ كنتُ أطرحُ السّؤال الصَّعبَ و المُحيّرَ و المفتوحَ و أضَعُ لهُ مجموعةَ أجوبةٍ منطقيةٍ و أحاولُ أنْ أقرِّرَ إلى أيٍّ منها كنتُ سأكونُ أَمْيَلَ .

كنتُ أستحضرُ الشّام كلّما أحسستُ أنّني بحاجةٍ للبَوحِ بمكنوناتِ روحي و أسألُها و معها أسألُ نفسي : ماذا لو لم تكوني أنتِ بالذّاتْ أمامَ عَينيِّ ، في قلبي ، مُعلّقةً على روحي ، ملاصقةً حَدّ التّوحُدِ لأفكاري ؟ .
ماذا لو قرّر اللهُ أنْ يُعاقبني – و هو الغني عنّي و عن عقابي – قبلَ أنْ أكونَ قادراً على ارتكابِ أيّ ذنبٍ صَغُرَ أمْ كَبُرَ فكتبَ عَلَيَ أنْ أُبصِرَ نوراً ليسَ مَنبَعُهُ وجهُ اللهِ الذي لا ينامُ مُباركاً سَماءَ و أرضَ الشّامِ و مُسَخِّراً ملائكتهُ لحِراستها ؟.
ماذا لو كََتَبَ عليَ أنْ أتنفَسَ هواءً لا يَمُرُّ من رئةِ الشّامِ و لا يتطهرُ بأنفاسها !؟ .
ماذا لو كَتبَ عليَ أنْ أسمعَ صوتاً أو همساً أو صمتاً غيرَ مغسولٍ بأصواتِ مآذن الشّامِ و عصافيرها الحالمة و مواويلها المُسْكِرَةِ و صمتَِها السّاحرِ و صَخَبِها المجنونِ و ضَجيجِها المُحبَّبِ و المُحرِّضِ على الإدمانِ !؟ .
ماذا لو كَتبَ علي أنْ أُربّي أنفي على غيرِ ياسمينِ الشّام و فُلّ الشّام و رائحةِ العرقِ من تحتِ إبطيّ الشَّام !!؟ .
ماذا لو حَرمَ إحساسي من نعمةِ التَّتلمذِ على يدي حاراتِ دِمشقَ و قاسيونِ دمشقَ و جامعِ دمشقَ و قلعتها وغوطتها و نهرها و أسواقها .
ماذا لو حَرمَه من لهفةِ صباحاتي لمساءاتها و مساءاتي لصباحاتها ، و من مشهدِ حَمَامَاتِ الشّامِ تأكلُ الحُبَّ و الحَبَّ من كفوفِ من أدمنَ أنْ يُطعِمَ الحمام ! ، و من مشهدِ قِطّةٍ شاميّةٍ جميلةٍ تتمخترُ بدلالٍ و أناقةٍ أمامَ متاجرِ الأسواقِ أو مقاعدِ الحدائقِ أو في باحاتِ البيوتِ ، و من مشهدِ طفلةٍ تستعدُ للصعودِ إلى حافلتها المدرسية و على ظهرها حقيبةٌ تحتوي براءة الكونِ و بِضْعُ كُتبٍ و دفاترَ و ألوانٍ و .. أحلام .
ماذا لو كُنتُ في وطنٍ لا تُباعُ في أسواقهِ بالعرباتِ الجّوالة ( عرانيسُ ) الذّرةِ المسلوقةُ و المشوية و الكستناء و ( الفيشار ) و الفولُ و التّوتُ الشّامي و التّمرُ الهنديُّ و عصيرُ البرتقالِ و الصّبّارُ و غيرها الكثير مما اعتادتْ دِمَشْقُ على بيعهِ حسبَ الفصلِ الذي يَسْكنُها .

ماذا لو لمْ يحدثْ لإحساسي أن تَراقصَ لمعزوفةٍ دِمشقيةٍ تعزِفُها بَحْرَةٌ في إحدى البيوتِ الشّاميةِ ثمَّ دارَ حولها و تمنّى لو رَشَّتْ جَسَدَهُ برذاذِها السَّاحرِ كما فعلتْ بروحهِ !!؟
ماذا لو حَرمني اللهُ من نِعمةِ البُكاءِ فرحاً أو .. تعباً في أحضانِ الشّام لمّا تتنهّد ، أو من حنانِها بعدَ أن تقسو و تَعنِدْ ، أو من حلاوةِ لقائِها بعدَ أن أَبْعُدُ .. أو تََبْعُدْ !؟
ماذا لو قُدّر لي أنْ أرضعَ حليباً مباركاً من نَهديّ أُمٍّ غيرِ الشّام !!؟
ماذا لو لمْ تكنْ أُنثايَ هي .. و مُلهمتي !؟
ماذا لو لمْ تكنْ حِرفتي و قَصيدتي ؟
ماذا لو لمْ تكنْ دُستوري و عَقيدتي ؟
ماذا لو لمْ تكنْ وطـنـي .. و قضيتي !؟

هذه هي الأسئلةُ التي تُثبتُ أجوبتُها لروحي التي هامتْ بعشقِ وطنٍ عَشِقَهُ كلُّ الذين داسوا أرضهُ الطّاهرةََ بأرواحهم لا بأقدامهم أنْ ليستْ كُلُّ الأوطانِ سَواءٌ ، و ليستْ كُلُّ النِّساءِ نِساءٌ ، و أنَّ هذه الأنثى المدهشةَ ما كانتْ بحاجةٍ لقاسَيونَ و بَرَدَى و للغُوطَةِ و للياسمينِ أو لغيرها مما حُرِمَتْ منهُ أوطانٌ أخرى لتكونَ الأطهرَ و الأجملَ و الأشهى ، ما كانتْ بحاجةٍ لأنْ تَكْشِفَ عنْ وَجهِها لكي تُكتَبَ فيها القصائدُ و تُكالُ لها المدائِحُ و تُغنّى لها المواويلُ و تُعلَنُ للكونِ كُلّهِ أنّها وطنُ الإحساسِ و أنّها أروعُ من ألهمَ و أكثرُ من فتنَ و أبلغُ من تكلّمَ .

الشّام .. هي الأنثى الاستثناء ، و التي كلّما شابتْ شبّتْ و أزهرتْ و أذهلتْ .
الأنثى التي يَحلُمُ بالنومِ في حُضنِها كلُّ المحرومينَ من وطنٍ آمنٍ و ساحرٍ ، وطنٍ مُدهشٍ .. و أليفٍ ، وطنٍ آسرٍ و .. مُحرّضٍ .

في حاراتها الموغلةِ في القِدمِ و .. الضّيّقةِ ، تتجدّدُ الأرواحُ و تتسعُ الصّدورُ و تَحْلَوُّ الدّنيا في العيون كلّما مررتَ بقنطرةٍ مُتّكئةٍ على جدارين ، أو ببسطةٍ يُباعُ فيها ما يُميّزُ أسواقَ دِمشقَ من عُطورٍ و تُحفٍ و صُورٍ و سِواها مما اعتادَ أنْ يقتنيها كُلّ من تَشرّف بزيارةِ هذه المدينةِ الأسطورة ، أو إذا مررتَ بالياسمين المُتدلّي من كلّ الجّهاتِ يُقرِئكَ السّلامَ و يَرشُّكَ برائحةٍ تُشْعِرُ حَوَاسَّكَ أنّكَ ما كنتَ أنتَ قبل ياسمين الشّام !!.

أسواقُها ، توقٌ لإفراغِ الجيوبِ و مَلْءِ الأرواحِ ، عِشْقٌ لإتعابِ الأقدامِ و إراحةِ النّفوسِ ، إدمانٌ على تجويعِ البطونِِ .. و إشباعِ العيونِ !! .

حدائِقُها .. بُيوتٌ مفتوحةٌ للسّماءِ ، مَقاعدٌ تشتاقُ لأنْ تخلوَ بنفسها و لو تحتَ المطر أو في عزّ الحرّ ، طُفولةٌ تلهو و تمرح و تُزيّن المكانَ و تُضحكهُ و تداعبُ ذاكرتهُ و ذاكرةَ من فيهِ ، و كُهولةٌ تفتحُ قلوبها لكلّ الأشياء و الأشخاصِ و تُحاكيهم بمنطقِ من جَرّبَ الحياةَ و أرادَ أن يَحكيَها بعُكّازتهِ و بلسانهِ المرتجفِ و وجههِ البشوش ، و عُشّاقٌ ضاقتْ بهم الدُّنيا إلا على مقعدٍ في ذاكرتهِ أعمارٌ من الهَمسِ و العِتابِ و القصائدِ .

مقاهيها .. احتفالٌ للفوضى الجميلةِ و المُحبَّبَة في أحيانٍ كثيرةٍ ما بينَ ثرثرةِ أحجارِ النّردِ و قرقعةِ النرجيلة و بين دندنةِ عودٍ و حديثِ حكواتيّ ، و ما بينَ التّبغِ و ( المُعسّل ) و بين رائحةِ الوردِ و .. دِمشق ! . ما بينَ عتابٍ قدْ يستحيلُ صراخاً و غضباً في لُعبةِ ( شَدّة ) و بينَ همسِ الشِّفاهِ و العيونِ و الأصابعِ و الأرواحِ على طاولةٍ أخرى قدْ تكونُ ملاصقةً للأولى !! .
و في مقاهٍ أخرى ، يحدثُ أن تلتقي بدمشقَ بأحلى و أبهى حُللِها ، فتتنفسُ رائحةَ ياسمينها و تسمعُ حديثها و عتابها و غزلها ، و تُطعمُ روحكَ و معدتكَ من ألذِّ و أطيبِ و أشهى ما يمكنُ للمرءِ أن يُطعمَ روحَهُ و معدتهُ ، في جوٍّ حميميٍّ مشحونٍ بحرفنةٍ بأصالةِ هذه المدينةِ و تُراثها .

شوارعُها .. مِهرجانٌ مُتفرِّدٌ و ساحر ، في بعضها فوضىً غريبةٌ و مفاجئةٌِ و متناقضةٌ ، مع الوقتِ ستعتادُها و تُحبّها و تفتقدها فيما لو لم تجدها في شارعٍ آخر !! ، و في بعضها الآخر يحلو لكَ محاكاةَُ أرصفتها على أن تحاكي مِقوَدَ سيّارتك طمعاً في إنعاشِ الرّوح و تسليتها و إشباعها !! .

جنونُها .. أم عقلانيتها ، ضجيجها أم هدوءها !!؟
ضحكتُها الكبيرةُ .. أم دموعها الكريمة !؟
ماؤها ، هواؤها ، تُرابُها أم سماؤها !!؟
ياسَمينُها ، فُلّها ، نرجسها ، سائرُ ورودها على كثرَتِها ، أم رائحتُها !؟
ربيعُها الحالمُ ، أم شِتاؤها المُدهشُ ، أم خريفُها الخُرافيُّ ، أم صَيفُها الصّاخبُ ؟
بردى ، الغوطة ، الرّبوة ، بقـّّين ، أمْ .. بْلودان !!؟
جبلُ قاسيون ، أم سوقُ الحميدية ، أم الجّامع الأموي ، أم حديقةُ تشرين ؟
أبوابُ دِمَشْقَ ، خاناتُ دِمَشْقَ ، متاحفُ دِمَشْقَ ، جوامعُ دِمَشْقَ ، مطاعمُ دِمَشْقَ ، أم مصايفُ دِمَشْقَ !!؟
قـَسَمُ اللهِ بها ، أمْ دُعَاءُ سَيّدِ الخَلقِ و بِشَاراتُه لها و لأهلها ، أمْ الأنبياءُ و الأولياءُ و الصَّحابةُ و الصَّالحونَ الذينَ أَبَوا إلا أنْ يُوارَوا ثَراها الطّاهِرَ ، أمْ الملائكةُ الذينَ يحرسونها بأمرِ صاحبِ الأمرِ و النّهي ؟

عن ماذا أحكي لكم و كلّ ما في دِمَشْقَ ... و ما حولَ دِمَشْقَ يستحقُ الذِّكرَ و الثَّناء و الاحتفال !!؟ .
كيف سأعتذرُ لِمَنْ سَهوتُ عنْ ذِكرهِ و التّغزُّلِ فيهِ و التّباهي بهِ ، و لِمنْ ذَكَرْتُهُ و لمْ أوّفّيهِ !!؟
كيف لي أنْ أُجيبكم جواباً يليقُ بعظمةِ الشّام و مكانَتِها و تاريخِها و حضارَتِها فيما لو سألتُموني عنّ سرِّ عشقي لها و عن عِشقِ كُلِّ من تعرّفَ على هذه البقاعِ المُباركةِ و عَرِفها ؟
كيفَ لي .. أنْ لا أبكي إذا حُرمتُ من نِعَمٍ لا يُكافِئُ اللهُ بها إلا من كانَ ذو حظٍّ عظيم !؟
كيف لي .. أن لا أَذُوبَ وَلَهاً لأجلِها و مَعها و فيها طَمَعاً في بَركةٍ مَنَّ اللهُ بها عليها !؟
كيفَ .. و هي رفيقتي الوحيدة من بينِ كلّ الرّفاق التي أجدُها تنتظرني مهما تأخّرتُ ، و تَحْضُنُني مهما بَكيتُ ، و تَرْبِتُ على كتفي مهما يَئِستُ ، و تُطفِئُ ثورتي مهما غَضِبْتُ ، و تفهمُني مهما صَمَتُ ، كيفَ و هي حبيبتي و سيدتي و مُلهِمَتي ، لا أَطيرُ شوقاً إليها كلّما نقرني الحنينُ بخبرٍ عنها ، أو صورةٍ لها ، أو صوتٍ منها ، أو شيءٍ صَغُرَ أو كَبُرَ يخصّها أو يرتبِطُ فيها ؟
كيفَ لا أهواها .. و فيها تعلّمتُ كيفَ أتكلمُ بدونِ فمٍ ، و أشُمُّ بدونِ أنْفٍ ، و أرى بدونِ عُيونٍ ، و ألْمِسُ بدونِ أصابعٍ ، و أكتُبُ بدون أقلامٍ ، و أطيرُ بدون أجنحةٍ ، و أبكي بدون دموعٍ ، و أضحكُ بدونِ شفاهٍ ، و أُدهِشُ الكونَ بحواسّي و إحساسي ؟
كيفَ لا أُصلّي صَباحَ مساء ، شُكراً و حمداً للذي كرّمني بنعمةِ الانتماءِ لها ، و رجاءً أنْ لا يَحْرِمَني المَوتَ على أرضها كما لمْ يحرمني الحياةَ معها و فيها و لها .
كيفَ لا أكونُ رسولاً للإحساسِ ، و أنا ابنُ وطنِ الإحساس !

(101)    هل أعجبتك المقالة (91)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي