( بعناها كلها بسبعة آلاف ليرة ... سبعة آلاف ياناس )
عبارة كان يرددها أبو العبد أنى حلّ ، ويتبعها بزفرة ألم طويلة ...
قلائل هم الذين كانوا يدركون .. ماذا كان يعني أبو العبد بعبارته تلك ، ولذلك كان ينعته البعض بالجنون ، والبعض الآخر بالخرف .
يتراجع من يحادثه منهم عن موقفه ، ويصر من يتركه لشأنه على قناعته ، إلا أن أولئك القلائل كانوا يرثون لحال أبي العبد ، ولكنهم لم يكونوا يتحدثون كثيراً عن مأساته ، لأن لهذه المأساة خصوصيتها التي قد لايدركها السامع ، فيفسر الأمر على هواه ، وقد يتضرر منها أبو العبد نفسه أو أي ناقل للقصة .
2
خاف من أسئلتي ، عندما وجدني مصراً على معرفة تلك التي باعها كلها بسبعة آلاف ليرة .. فتكتم قائلاً :
ـ الأمر لايعنيك في شيء ياأستاذ ..
ـ لقد صار الأمر يعنيني منذ بدأت أحس بزفرات الألم عندك ياعم ..
ـ الكثير منهم يعرف .. إذهب إليهم .. سيحدثونك دون استجداء ..
ـ لماذا لاأكون واحداً من هؤلاء الكثيرين ياأبا العبد ..؟
ـ لماذا ..؟ لماذا ..؟ كلكم يتساءل .. والحقيقة ناصعة البياض أمام أعينكم ..!!
أحسست أنني سببت له بعض التوتر بتطفلي ، فانسحبت بهدوء وأنا أسمعه يكرر بصوت متقطع :
ـ بسبعة آلاف ياناس بعناها ... بسبعة آلاف ...
3
في منزل أشبه بكوخ طيني مسور ببعض الأحجار المتوضعة بعشوائية ، كان يقيم أبو العبد مع زوجته التي لم تعد تعرف كيف تغادر كوخها هذا ، بينما يختار أبو العبد لنفسه في كل صباح زاوية من زوايا الزاروب المؤدي إلى كوخه ، كجزء من مملكته اليومية ، يقف على كتفها ، يدرج لفافة غير متناسقة ، يشعلها ، ثم يبدأ سيلاً من الشتائم مع أول نوبة سعال تقتحمه .
ليس من السهل أن يفهم أي عابر تفاصيل شتائمه ، لكنه يدرك ببساطة أنه يشتم وكفى . وعندما تهدأ نوبة سعاله ، ترتفع وتيرة صوته مجدداً :
ـ قال سبعة آلاف .. قال ..لقد قالوا لي أنني بهذه السبعة آلاف سأشتري ( عليّـة ) مثل علية المير أبي ملحم و ( حاكورة ) أزرع فيها بعض الخضار ، أستر فيها آخرتي .. لكن ياحسرة لاعليّة ولاحاكورة ولامن يحزنون .
يقطع استرساله أحد العابرين :
ـ صباح الخير ياأبو العبد ..
ـ صباح النور ..
يتذكر أن عليه أن ينطلق إلى زاوية أخرى ، فيفعل ، يتعثر بنوبة سعال أخرى ، يلعن ويشتم من جديد ، ويعلن نيابة عنه أحد العابرين :
ـ بعناها بسبعة آلاف ....
ينظر إليه شزراً ، وينطفئ مع لفافته وسعاله .
4
لم أكن ألقى أي استجابة من أولئك الذين كنت أصادفهم وأطلب منهم أن يشرحوا لي شيئاً عن حكاية سبعة آلاف أبي العبد هذه ، وظل هو مصراً على أن الحقيقة واضحة لالبس فيها ولاغموض .
زادني ذلك إصراراً على معرفة شيء ما من قصة أبي العبد هذه ، فقررت أن أتغلغل أكثر في عالمه الخاص .
تجاسرت على دخول الكوخ ـ المنزل بحجة ما ، لعل بعض مافيه يكون دليلاً على الحكاية ..
أم العبد على بساطتها ، رحبت بي وقالت :
ـ تفضل ياأستاذ .. سيصل أبو العبد بعد قليل ..
تلفت حولي أبحث عن شيء ما لا أعرفه ، باب خشبي متآكل ، جدران طينية مطروشة بكلس قديم ، خابية من الفخار تقبع عند الباب ، ولم يكن العتم يسمح لي باكتشاف ألوان بضع ( طراريح ) قماشية داكنة متناثرة على الأرض ، وفراش متوضع على سرير لا .. ليس سريراً ..! إنما بضع قطع خشبية متجانبة .
قنديل معلق في مسمار على الجدار ، صندوق خشبي كالح اللون في إحدى الزوايا ، بضع صحون نحاسية داخل إحدى الكوى .
بحثت عن شيء ما يشير إلى الآلاف السبعة التي يتحدث عنها أبو العبد ، فما ظفرت .
حاولت العجوز أن تستبقيني ، ولكني لم أجد مايحفزني على سؤال أعرف سلفاً أن جوابه لن يشفي غليلي .
تأججت الرغبة في داخلي أكثر ، صرت أشد حرصاً على الوصول إلى حقيقة ماض ما يرتبط بهذا الرجل الذي صار بائساً إلى درجة أصبح معهايجتر آلامه ، كمده ، ندمه على مافات .
ولم يكن أمامي بد من البحث عن أولئك القلائل الذين يعرفون قصة هذا الرجل ، ولايصرحون بها .. وصدمت من جديد عندما تهرب من وصلت إليه منهم من
الإجابة ، وأعلنوا :
ـ إنه عجوز خرف .. ينطق بأشياء لاتعني شيئاً ، ولاتستند إلى شيء .
لم يكن يبدو خرفاً ، وكانت تحثني تلك الزفرة التي يطلقها دائماً على البحث عن حقيقة لايزال كل ماحولها غامضاً بالنسبة لي على الأقل ، وبت أحاول أن أجعل هذا الرجل يطمئن لي ، فأسمع منه شيئاً ما ، وكانت مهمتي صعبة فعلاً .
5
صرت أتخفى حيناً ، أراقبه من بعيد ، أدرس بعض تصرفاته ، أحلل كلمات الشتائم التي تجود بها قريحته ، ولم يكن من الصعب أن ألتقط أطراف بعض الكلمات .
تدخلت مرة لمساعدته ، امتن لي طويلاً ، ثم صمت وأعلن بصوت جهوري واضح :
ـ بسبعة آلاف بعناها ياأستاذ .. بسبعة آلاف ...
بكى فآلمني ، وحاولت أن أهدئه :
ـ لماذا بعتموها ياعم أبو العبد ...؟
ـ تسأل لماذا ..!! هم دفعوني إلى بيعها ..!! ستظل حسرة في قلبي يابني .. بقيت لوحدي فيها ، أولادي هم أنفسهم لم يعودوا يرغبون بالسكن في القرية ، رحلوا إلى العاصمة ، إلى مدن أخرى ... ماذا أفعل بها بعدذلك ..؟ كيف أزرع وأحصد ...؟
كيف ...؟
انتبه إلى نفسه فسكت فجأة ، وعاد يزفر من جديد .
في المرة القادمة ، انسابت القصة كاملة من أوردته ...
بكى طويلاً ، وأعلن بصوت غير متقطع هذه المرة :
ـ وعدني عبدو وصلاح وسعد أن يجمعوا لي السبعة آلاف ، سأعود إلى ( عش
الحمام ) ، لقد قال لي أبو غانم أنه سيعيد لي البيت والأرض والبقرتين إذا أعدت له المبلغ .
ـ لكن هذا الذي تتحدث عنه كان منذ سنوات بعيدة ياأبا العبد .. الآن يريدون منك ملايين ، هذا إذا قبلوا برد البيع .
ـ قال ملايين .. قال .. قلت لك بسبعة آلاف .. وأبو غانم وعدني .. ووعد الحر
دين ، أم أنكم أنتم أبناء هذا الزمن نسيتم ذلك ..!؟
ولم تسمح له نوبة السعال التي غافلته بالمتابعة ......
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية