أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بسبعة آلاف ... محمد عزوز

( بعناها كلها بسبعة آلاف ليرة ... سبعة آلاف ياناس )
عبارة كان يرددها أبو العبد أنى حلّ ، ويتبعها بزفرة ألم طويلة ...
قلائل هم الذين كانوا يدركون .. ماذا كان يعني أبو العبد بعبارته تلك ، ولذلك كان ينعته البعض بالجنون ، والبعض الآخر بالخرف .
يتراجع من يحادثه منهم عن موقفه ، ويصر من يتركه لشأنه على قناعته ، إلا أن أولئك القلائل كانوا يرثون لحال أبي العبد ، ولكنهم لم يكونوا يتحدثون كثيراً عن مأساته ، لأن لهذه المأساة خصوصيتها التي قد لايدركها السامع ، فيفسر الأمر على هواه ، وقد يتضرر منها أبو العبد نفسه أو أي ناقل للقصة .

2
خاف من أسئلتي ، عندما وجدني مصراً على معرفة تلك التي باعها كلها بسبعة آلاف ليرة .. فتكتم قائلاً :
ـ الأمر لايعنيك في شيء ياأستاذ ..
ـ لقد صار الأمر يعنيني منذ بدأت أحس بزفرات الألم عندك ياعم ..
ـ الكثير منهم يعرف .. إذهب إليهم .. سيحدثونك دون استجداء ..
ـ لماذا لاأكون واحداً من هؤلاء الكثيرين ياأبا العبد ..؟
ـ لماذا ..؟ لماذا ..؟ كلكم يتساءل .. والحقيقة ناصعة البياض أمام أعينكم ..!!
أحسست أنني سببت له بعض التوتر بتطفلي ، فانسحبت بهدوء وأنا أسمعه يكرر بصوت متقطع :
ـ بسبعة آلاف ياناس بعناها ... بسبعة آلاف ...

3

في منزل أشبه بكوخ طيني مسور ببعض الأحجار المتوضعة بعشوائية ، كان يقيم أبو العبد مع زوجته التي لم تعد تعرف كيف تغادر كوخها هذا ، بينما يختار أبو العبد لنفسه في كل صباح زاوية من زوايا الزاروب المؤدي إلى كوخه ، كجزء من مملكته اليومية ، يقف على كتفها ، يدرج لفافة غير متناسقة ، يشعلها ، ثم يبدأ سيلاً من الشتائم مع أول نوبة سعال تقتحمه .
ليس من السهل أن يفهم أي عابر تفاصيل شتائمه ، لكنه يدرك ببساطة أنه يشتم وكفى . وعندما تهدأ نوبة سعاله ، ترتفع وتيرة صوته مجدداً :
ـ قال سبعة آلاف .. قال ..لقد قالوا لي أنني بهذه السبعة آلاف سأشتري ( عليّـة ) مثل علية المير أبي ملحم و ( حاكورة ) أزرع فيها بعض الخضار ، أستر فيها آخرتي .. لكن ياحسرة لاعليّة ولاحاكورة ولامن يحزنون .
يقطع استرساله أحد العابرين :
ـ صباح الخير ياأبو العبد ..
ـ صباح النور ..
يتذكر أن عليه أن ينطلق إلى زاوية أخرى ، فيفعل ، يتعثر بنوبة سعال أخرى ، يلعن ويشتم من جديد ، ويعلن نيابة عنه أحد العابرين :
ـ بعناها بسبعة آلاف ....
ينظر إليه شزراً ، وينطفئ مع لفافته وسعاله .





4

لم أكن ألقى أي استجابة من أولئك الذين كنت أصادفهم وأطلب منهم أن يشرحوا لي شيئاً عن حكاية سبعة آلاف أبي العبد هذه ، وظل هو مصراً على أن الحقيقة واضحة لالبس فيها ولاغموض .
زادني ذلك إصراراً على معرفة شيء ما من قصة أبي العبد هذه ، فقررت أن أتغلغل أكثر في عالمه الخاص .
تجاسرت على دخول الكوخ ـ المنزل بحجة ما ، لعل بعض مافيه يكون دليلاً على الحكاية ..
أم العبد على بساطتها ، رحبت بي وقالت :
ـ تفضل ياأستاذ .. سيصل أبو العبد بعد قليل ..
تلفت حولي أبحث عن شيء ما لا أعرفه ، باب خشبي متآكل ، جدران طينية مطروشة بكلس قديم ، خابية من الفخار تقبع عند الباب ، ولم يكن العتم يسمح لي باكتشاف ألوان بضع ( طراريح ) قماشية داكنة متناثرة على الأرض ، وفراش متوضع على سرير لا .. ليس سريراً ..! إنما بضع قطع خشبية متجانبة .
قنديل معلق في مسمار على الجدار ، صندوق خشبي كالح اللون في إحدى الزوايا ، بضع صحون نحاسية داخل إحدى الكوى .
بحثت عن شيء ما يشير إلى الآلاف السبعة التي يتحدث عنها أبو العبد ، فما ظفرت .
حاولت العجوز أن تستبقيني ، ولكني لم أجد مايحفزني على سؤال أعرف سلفاً أن جوابه لن يشفي غليلي .
تأججت الرغبة في داخلي أكثر ، صرت أشد حرصاً على الوصول إلى حقيقة ماض ما يرتبط بهذا الرجل الذي صار بائساً إلى درجة أصبح معهايجتر آلامه ، كمده ، ندمه على مافات .
ولم يكن أمامي بد من البحث عن أولئك القلائل الذين يعرفون قصة هذا الرجل ، ولايصرحون بها .. وصدمت من جديد عندما تهرب من وصلت إليه منهم من
الإجابة ، وأعلنوا :
ـ إنه عجوز خرف .. ينطق بأشياء لاتعني شيئاً ، ولاتستند إلى شيء .
لم يكن يبدو خرفاً ، وكانت تحثني تلك الزفرة التي يطلقها دائماً على البحث عن حقيقة لايزال كل ماحولها غامضاً بالنسبة لي على الأقل ، وبت أحاول أن أجعل هذا الرجل يطمئن لي ، فأسمع منه شيئاً ما ، وكانت مهمتي صعبة فعلاً .

5

صرت أتخفى حيناً ، أراقبه من بعيد ، أدرس بعض تصرفاته ، أحلل كلمات الشتائم التي تجود بها قريحته ، ولم يكن من الصعب أن ألتقط أطراف بعض الكلمات .
تدخلت مرة لمساعدته ، امتن لي طويلاً ، ثم صمت وأعلن بصوت جهوري واضح :
ـ بسبعة آلاف بعناها ياأستاذ .. بسبعة آلاف ...
بكى فآلمني ، وحاولت أن أهدئه :
ـ لماذا بعتموها ياعم أبو العبد ...؟
ـ تسأل لماذا ..!! هم دفعوني إلى بيعها ..!! ستظل حسرة في قلبي يابني .. بقيت لوحدي فيها ، أولادي هم أنفسهم لم يعودوا يرغبون بالسكن في القرية ، رحلوا إلى العاصمة ، إلى مدن أخرى ... ماذا أفعل بها بعدذلك ..؟ كيف أزرع وأحصد ...؟
كيف ...؟
انتبه إلى نفسه فسكت فجأة ، وعاد يزفر من جديد .
في المرة القادمة ، انسابت القصة كاملة من أوردته ...
بكى طويلاً ، وأعلن بصوت غير متقطع هذه المرة :
ـ وعدني عبدو وصلاح وسعد أن يجمعوا لي السبعة آلاف ، سأعود إلى ( عش
الحمام ) ، لقد قال لي أبو غانم أنه سيعيد لي البيت والأرض والبقرتين إذا أعدت له المبلغ .
ـ لكن هذا الذي تتحدث عنه كان منذ سنوات بعيدة ياأبا العبد .. الآن يريدون منك ملايين ، هذا إذا قبلوا برد البيع .
ـ قال ملايين .. قال .. قلت لك بسبعة آلاف .. وأبو غانم وعدني .. ووعد الحر
دين ، أم أنكم أنتم أبناء هذا الزمن نسيتم ذلك ..!؟
ولم تسمح له نوبة السعال التي غافلته بالمتابعة ......

(116)    هل أعجبتك المقالة (91)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي