أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عفوا دولة الرئيس ... بلال التل

عفواً دولة الرئيس إن كنت قد أزعجتكم بتوجيه مقالي لدولتكم للأسبوع الثاني على التوالي، فإن ذلك نابع من حرصي على نجاح تجربتكم في الحكم، ولأنني صاحب علاقة مباشرة تمتد لأربعة عقود متواصلة في الإعلام الأردني المرئي والمسموع والمقروء؛ وهي عقود وفرت لي تجربة استطيع التحدث على ضوئها. لأقول: إن الحكومة تسرعت بإصدار مدونة قواعد السلوك لعلاقتها مع وسائل الإعلام، لأسباب كثيرة: أولها أن مشكلة الصحافة والإعلام في بلدنا على وجه الخصوص، هي مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية ومهنية، يتداخل فيها ذلك كله، كما يتداخل فيها الداخل مع الخارج. كما أنها مشكلة قيم ومفاهيم ومواقف، قبل أن تكون مشكلة أرقام وإحصائيات. وهي بحاجة إلى حل جذري وشامل. يتناول القضية من كل جوانبها وبالتفصيل الدقيق. لأن الحلول المجتزءة والتي جربناها منذ ما يقارب العقدين، سواء من خلال سن القوانين والأنظمة والمواثيق. أو من خلال سياسات الاسترضاء والإغراء والاستزلام التي مارستها كل الحكومات. أو من خلال سياسة المنع والحصار والمعاقبة التي مارستها بعض الحكومات. وكل هذه الحلول المجزوءة زادت المشكلة تعقيداً وتفرعاً.
ثانياً: إن مشكلة الصحافة والإعلام في الأردن، ليست مشكلة نصوص، ولكنها مشكلة نفوس وعقول. فعلى صعيد النصوص، فإن مدوّنة قواعد السلوك لعلاقة الحكومة مع وسائل الإعلام، التي أقرها مجلس الوزراء لم تحمل جديداً. ففي مواد قانوني المطبوعات والنشر وقانون نقابة الصحفيين، وفي ميثاق الشرف الصحفي، وفي مواثيق أخرى أجمع عليها هذا القطاع الإعلامي أو ذاك، أكثر مما في المدوّنة الجديدة من إرشادات، وتوجيهات ومواعظ وإجراءات يسهل التحايل عليها، أو تعطيلها، في بلد صار من المألوف فيه أن تقرأ لهذا المسؤول أو ذلك المسؤول تصريحات يقرر فيها تعطيل هذه المادة من القانون أو تلك، مع أن ذلك ليس من صلاحياته. مثلما تقرأ لهذا المسؤول أو ذاك تصريحات يتحدث فيها عن تفعيل هذه المادة من القانون أو تلك، مع أن القانون في الأصل «أمرٌ» ولا يجوز تعطيله، لنعود إلى تفعيله على ضوء الهوى والمزاج. فإذا كان هذا حالنا مع القوانين النافذة الآمرة فكيف سيكون حالنا مع مواثيق الشرف، التي سبق وأن ضربنا بها عرض الحائط في مجال الإعلام وغير الإعلام؟!، لذلك فإن الأصل ليس في النص؛ ولكن في القناعة والاقتناع والإرادة السياسية.
ثالثاً: من الواضح أن الجانب الاقتصادي شغل الحيّز الأكبر من المدوّنة الجديدة. وهذا خلل كبير وواضح في النظرة للعلاقة بين الصحافة والإعلام والحكومة، وفي نظرة الحكومة للإعلام. فالأصل في الصحيفة والجهاز الإعلامي أنه مشروع سياسي، أو ثقافي، أو اجتماعي، أو ذلك كله. وبالتالي لا بد من التعامل معه على هذا الاساس. وإصلاح أي خلل في القطاع الإعلامي لا بد من أن يكون من منظور شامل سياسي وثقافي واجتماعي.
ومن المهم أن نذكر في هذا المجال، أن كل حكومات العالم تسعى لدعم وسائل الإعلام، بل وشرائها، من خلال تقديم الدعم المالي المباشر، أو غير المباشر، من خلال الإعفاءات الضريبية والجمركية، ومن خلال الإعلان والاشتراك. إلا في بلدنا، حيث تتبارى الحكومات في فرض الضرائب والرسوم على وسائل الإعلام، مثلما تتبارى في تضييق الخناق على وسائل الإعلام بالإعلان والاشتراك أولاً وبغير ذلك ثانياً. ونظن أن المدّونة الجديدة تصب في هذا الاتجاه بدليل أنها وضعت آليات لتنفيذ بنديْن من ستة بنود تكونت منها المدّونة، وهما البندان المتعلقان بالإعلان والاشتراك، في حين بقيت البنود الأخرى المتعلقة بالحفاظ على حرية الصحافة وعدم ممارسة الضغط عليها بدون آليات لتحقيق ذلك.
لقد ذهبت المدوّنة إلى الجانب الأسرع والأسهل. وهو جانب المنع والتضييق. بدلاً من العمل على معالجة فوضى سوق الإعلان، وسد المنافذ أمام استمرار تدفق البضاعة الفاسدة إلى بلاط الإعلام الأردني من خلال سد منافذ الإبتزاز والفساد، الذي نظن أن المدوّنة الجديدة ستزيد منها، ذلك أن الكثير من المتحكمين بالإعلان في دوائر الدولة ومؤسساتها هم شركاء في مكاتب إعلان، أو أنهم يفرضون (خاوة) على الصحف، وخاصة الأسبوعية. لاعطائها نصيبها من الإعلان الحكومي. فمن الذي سيراقب مدى التقيد بالمعايير المهنية التي سيعممها وزير الإعلام على الوزارات والمؤسسات لربط الإعلان بها؟. علماً بأن الاسترضاء والمهادنة اللذين أعلنت المدوّنة اغلاق بابهما لم يكونا يتمان من خلال الإعلانات والاشتراكات فحسب، بل من خلال المغلفات والأعطيات التي كانت تعطى لهذا الكاتب أو ذلك الصحفي بعيداً عن علم صحيفته وإدارتها في جل الأحوال إن لم يكن كلها؛ مما يعني أن المدّونة لن تفعل شيئاً على صعيد منع سياسة الاسترضاء والمهادنة.
ثم ألا تعتقد الحكومة أنها بتضييقها على وسائل الإعلام، ستدفع الكثير منها إلى الارتماء في حضن هذه الجهة أو تلك. خاصة وقد كثر الحديث في بلدنا عن التمويل الأجنبي بكل ما يحمله من مخاطر سياسية واجتماعية وأخلاقية؟.
وفي إطار الحديث عن الجانب الاقتصادي، في العلاقة بين الحكومة والإعلام، وفي كل توجه الحكومات الواضح والجلي للتضييق الاقتصادي على الإعلام، يثور السؤال: هل من حق الحكومة التي تحاصر صحيفة، أو موقعاً، أو قناة فضائية أن تطالبها بعد ذلك بموقف سياسي مؤيد لها أو بالحديث عن إنجازاتها؟.
كما إن سؤالاً ثانياً يثور، ونحن نتحدث عن الجانب الاقتصادي في العلاقة بين الحكومة والإعلام، وهو: ألا تعتبر الحكومة الإعلام الأردني كتيبة من كتائبها في معارك السياسة، والبناء الاجتماعي والاقتصادي، وأداة من أدوات هذا البناء. فإذا كانت الحكومة تعتبر الإعلام كذلك فمنذ متى تفرض الضرائب على الجيوش والمقاتلين؟!.
رابعاً: نعتقد أن الكثير من المعالجات الحكومية المتعاقبة لهذا الخلل أو ذاك، في الجسم الإعلامي استهدف الصحافة الأسبوعية أولاً. علماً بأن بعض الصحف اليومية والعاملين فيها يمارسون الكثير من صور الفساد والإبتزاز، التي تمارسها بعض الأسبوعيات والمحسوبين عليها. ونعتقد أن ضبط الإعلان والاشتراك بالطريقة التي وردت بالمدوّنة الجديدة، لن تعالج الفساد والخلل الذي تمارسه بعض اليوميات، لأن جل اليوميات من حيث المِلْكية هي شركات مساهمة عامة، لا يعني بعض العاملين فيها مدى ربحها أو خسارتها، ما دامت إمتيازاتهم تصلهم. وفي هذا المجال أحب أن أذكر بعض الفرحين بالمدّونة ظناً منهم أنها قد تصيب قطاعاً دون آخر من العاملين في الإعلام بمقولة (أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض) ذلك أن البلاء إذا أصاب مهنة ما ليصيب كل العاملين فيها.
وبعد؛ اعتقد أن الحكومة تسرعت في هذه المعالجة المجزوءة، لمشكلات الإعلام الأردني والصحافة على وجه الخصوص. وأن بعض الذين دفعوها لهذا التسرع إن كان ذلك قد تم، إنما وضعوا بين يديها ومبكراً «قنبلة موقوتة»، تماماً مثلماً حدث مع حكومة المهندس نادر الذهبي، عندما رُحِّلت إليها مشكلة ضريبة المبيعات مع الصحافة الأسبوعية.
وإذا كان لي من كلمة في نهاية هذا التعليق، فهي أولاً: دعوة لدولة الرئيس للتأني في إطار السعي لوضع حل شامل وجذري لهذا الملف الشائك. ودعوة أيضاً لشيوخ الإعلام وعقلائه ليتحركوا هم أيضاً لمعالجة شؤون بيتهم الداخلي. حتى لا تظل البضائع الفاسدة تدخل إليه. وحتى لا يظل حقلاً للتجارب

(80)    هل أعجبتك المقالة (91)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي