أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جميلة بوحيرد.. عندما تموت الحرة لنأكل بثدييها ... حسن بلال التل

 الله كم صعقت عندما اكتشفت ان رمز النضال العربي والجزائري، تلك الفتاة الجميلة اليانعة التي اهتز الوطن العربي من محيطه الثائر الى خليجه الهادر عند اعتقالها وتعذيبها في سجون الاحتلال الفرنسي، وخرجت المظاهرات لتهاجم معاقل الاحتلال وسفارات فرنسا في دمشق والقاهرة وعمان من اجل عينيها، أقول انني صعقت عندما علمت ان (الشهيدة) جميلة بوحيرد حية ترزق!

لقد شاهدت فيلم جميلة وقصة كفاحها ونضالها بضع عشرة مرة، وسمعت مئات الخطب التي تتغنى بها، وعشرات القصائد التي روت قصتها، وجلست في ما لا يعد ولا يحصى من جلسات العصف الفكري والنقاش الثوري المحتدم مع عشرات من ثوار آخر الزمان وكانت جميلة (جان دارك العرب) وكفاحها واستشهادها دوما حاضرين معنا، وانني على يقين ان آلافا مؤلفة من ابناء هذا الوطن العربي الكبير حجما الصغير الصغير روحا ومضمونا قد افادوا من جميلة وكفاحها وثورتها، فهناك من طبع صورتها ووزعها وباعها، وهناك من انتج عنها الافلام والمسلسلات ولم تفد جميلة منه مليما واحدا، وهناك من كتب عنها وادعى انه ينشر مذكراتها وقصتها الحصرية، وغير ذلك كثير كثير.

كل هذا وجميلة قابعة هناك في شقتها الصغيرة في الجزائر العاصمة، تعاني المرض والوحدة والفقر، وتكظم غيظها وحزنها وفقرها، وتداري وجهها من البقال والقصاب اللذين لا تملك ان تسدد لهما ديونهما البسيطة لأن الفقر والمرض وغدر الدنيا وتخلي القريب قبل البعيد عنها قد هدها، ولأن جميلة هي ثائرة حرة فقد رفضت ان تأكل بثدييها وتبيع تراثها، وتتاجر بتاريخها وتاريخ بلادها، وتحول جهادها لأجل الله والوطن الى منافع ومتاع من متاع الدنيا الرخيص.

لكن الدنيا لا ترحم، والفقر لا يبقي ولا يذر، والمرض لا يفرق بين مجاهد وخائن، وبعد ان أكل الدهر من لحم جميلة وشرب من دمها، لجأت الى دولتها وبلدها الذي حاربت من اجله، ومن اجله هدها الفقر والمرض، ولم تطلب قصورا ولا مناصب ولا اموالا لا تأكلها نيران الظالمين، كل ما طلبته ان تُحفظ لها كرامتها، وتسدد ديونها البسيطة، وان تحظى بالحد الادنى من الرعاية الطبية اللائقة التي تمكنها من ان تقضي ما تبقى من عمرها -الذي افنته في سبيل بلادها حتى اذا انتهى وقت الجهاد الحقيقي وجاء دور الاعيب السياسة وتقسيم الغنائم غابت جميلة بارادتها في بحر النسيان الاختياري- كريمة معززة، وهو ابسط حقوقها.

سيدتي جميلة بوحيرد لو طلت ان اقبّل جبينك وأبكي دما في حضرتك ما قصّرت عن ذلك، فأنت واحدة من حفنة من الصادقين القلائل الذين صدقوا الله وعده وما بدلوا تبديلا، واننا لخائنون لعهد الله ووعده وخائنون لآلاف من الشهداء الاحياء عند ربهم والشهداء الاحياء بين ظهرانينا امثالك، ولا أعرف للخائن من جزاء أقسى من خزي الدنيا وخسران الآخرة، فويل لنا قوما أخزياء خاسرين.

سيدتي جميلة بوحيرد لا تهني ولا تخافي ولا تحزني، فأنت الحرة التي أبت ان تأكل بثدييها، ونحن الخائنون الذين قتلنا الحرة وبعناها، واكلنا بثدييها، ومعها أكلنا بكرامتنا وشرفنا وأعراضنا.

سيدتي جميلة بوحيرد عذرا... فإنني لا استحق ان اخاطبك، وانت ارفع من ان اندبك، وانت من لا تحتاجين ندبا بل تستحقين تكريما وتبجيلا، فيما نحن من لا يجوز علينا الا الندب واستجلاب الرحمات، بعد ان متنا ونحن احياء

(86)    هل أعجبتك المقالة (94)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي