أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الفدائي : سيد عسران .. فتي بورسعيد الذهبي ... محمد عبده العباسي

هاهي أيام المجد والزهو والفخار تحملنا علي أجنحتها ، نتذكرها فتملأ التفوس شجناً ويراودنا الحنين إلي زمن البطولات ، زمن ضرب فيه الشعب البورسعيدي المثل الأعلي بين شعوب العالم في تحدي قوي البغي والعدوان ، قوي العدوان الثلاثي ( إنجلترا وفرنسا وإسرائيل) علي ثري الوطن العظيم في بورسعيد المناضلة في عام 1956م ..

وها نحن نعيش في رحاب هذه الذكري الجميلة ، ذكري انتصار الشعب المصري الذي التحم أفراده مع أبطال الجيش ليحققوا النصر علي العدوان ، يوم 23 من ديسمبر ـ غداً ـ هو ذكري اندحار هذا العدوان وانسحاب القوات المعتدية من أرض الكرامة تجرجر ذيول الخيبة والهزيمة ، وليعرف العالم بأسره أن ارادة الشعوب لا تنهزم..

هناك الكثير من الأبطال الذين قدموا النموذج الأمثل لكل الشباب العربي من محيطه إلي خليجه لإيمانهم الصادق بحق الدفاع عن الأوطان ..

نحن الآن في رحاب بطل رحل عنا ولم يغادرنا ، بطل من نوع مصري صيل ، فارس بكل معاني الفروسية والنبل ..

إنه سيد عسران ..

عاش سيد عسران طوال حياته ، رجلاً بكل ماتحمله الكلمة من معانٍ سامية تجلت في الكثير من مواقفه ، مناضل عاشق لثري هذه المدينة ، متشبث بحب الوطن ، يعانق الجميع ممن يلقونه بحب جارف وقلب يسع الدنيا بأسرها ، كما كان معانقاً للحياة ..

هكذا كان وسيظل " عم سيد ملء " يمثل الضمير الوطني ، وعلامة ذات معني في ذاكرة هذه الأمة مهما علا علي السطح هؤلاء الذين لا يكفون عن الثرثرة والمزايدة والإدعاءات الرخيصة من أجل نيل غرض مؤقت أو فوز عابر ..

كان سيد عسران يمثل ضمير أمته وهي تواجه عدواناً غاشماً من دول ثلاث جاءت لتجهض حلمها الجميل ، كان وقتها شاباً صغيراً لم يشب بعد عن الطوق ، ولكن أبناء الوطن والذين ينذرون أرواحهم في سبيله وعانقوا عظمة الشهادة ، لا يعرفون السن ، ليضربوا أروع أمثلة الفداء ولم يبحثوا عن شرف مروم أو مجد تليد ..

ففي أزمنة المحنة تظهر معادن الرجال ، وفي تلك الفترة العصيبة بزغت عبقرية الشاب سيد محمد عسران عثمان المولود في 15/4/1938 وتجلت ليقدم روحه وشبابه تلبية لنداء الوطن الذي يعاني من نير العدوان الثلاثي علي ثراه الغالي..

ضرب الفتي سيد عسران المثل الأعلي في الإيمان بقضية الوطن الذي عشقه حتي الثمالة ..

كانت قوات الإحتلال البريطاني قد ملأت شوارع المدينة الباسلة جوراً وظلماً بعد سلسلة من الاخفاقات والفشل الذريع في مواجهة المقاومة الشعبية التي استبسل أفرادها علي كافة الأصعدة في التصدي وتحدي قوي العدوان..

وكان أفراد المقاومة الباسلة حجر عثرة أمام المعتدين الذين دمروا وخربوا وحرقوا البيوت وقطعوا المياه والكهرباء ، ولم تستسلم المدينة ..

فبعد أن أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القرار رقم 285 يوم 26من يوليو عام 1956 الخاص بتأميم شركة قناة السويس العالمية للملاحة البحرية وجعلها تعود إلي السيادة المصرية ..

جن جنون بريطانيا العظمي وقامت علي الفور بتوجيه انذار شديد اللهجة إلي القيادة المصرية في ذلك الوقت ، وتحالفت معها فرنسا واسرائيل للنيل من كرامة مصر ،فحشدت قواها وهاجمت المدينة الباسلة وفي ظنها أن المدينة ستسقط ويستسلم الناس فيها ، وأن احتلالها هو السبيل الوحيد لإجهاض القرار التاريخي وإعادة الأوضاع إلي سابق عهدها..

إلا أن المقاومة الشعبية أستمرت منذ أول لحظة وهاجمت العدو في شراسة واستبسال منقطع النظير وأقضت مضاجع العدو الذي تعامل بالتدمير والتخريب لكل أحياء المدينة وتضافرت كل القوي الوطنية تناضل ضد المستعمر الغاصب بكل من سلاح وعتاد ، وخرج ناس المدينة عن بكرة أبيهم دونما خوف او وجل ..

وحدث أن وقعت أكبر عملية إهانة لبريطانيا العظمي ـ الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ـ فقد شكل مجموعة من شباب المدينة الشجعان ( حسين عثمان ـ محمد حمدالله ـ علي زنجيرـ أحمد هلال) فريقاً وضع نصب عينيه ضرورة إهانة الشراسة البريطانية وكانت واقعة خطف الملازم أنتوني مورهاوس الذي يمت بصلة قرابة لملكة بريطانيا زكان ضابطاً مغروراً عاث في شوارع المدينة فساداً يزهو بنفسه في خيلاء المتحامق ..

وتمت عملية الخطف ، فلم يغمض لقادةالقوات البريطانية جفن ، ولم تترك القوات البريطانية في المدينة سبيلاً إلا وقطعته ،ولا بيتاً إلا فتشته ،ولا مواطناً إلا أستوقفته وألقت القبض عليه ، وتم التحفظ علي الضابط المتهور في بدروم بيت صغير بشارع عرابي ـ أحد أهم شوارع المدينة ـ. وحاصرت القوات البريطانية المنطقة بأسرها لأيام حتي لقي مورهاوس حتفه .

استمر مسلسل الغرور يشوب الموقف البريطاني وقد شعر قادتهم بجرح غائر أورث حلوقهم المرارة وأدمي نفوسهم بالحزن ، وجاء الدور علي " الميجور جيمس ماكدونالد ويليامز " فشمر عن ساعديه ليثبت لقيادته أنه المنقذ الذي سيمحو العار الذي لحق بالشرف المهين ويرد الكرامة المهدرة ..

صحب مساعده " ريفز " في رحلة البحث عن الجناة في كل أنحاء المدينة، ولكن ليس كل ماتتمناه قوي الطغيان تدركه ..

وقتها كان الفتي سيد عسران في الثامنة عشرة من عمره وكأنما قد ساقه القدر ليقف لـ " الميجور وليامز " بالمرصاد ليلقي رئيس المخابرات البريطانية حتفه علي يديه..

كان صباحاً ليس ككل الصباحات التي مرت علي المدينة التي تزدهي بأبنائها ، وتمسد شعورهم إذا حان المساء مثل أم رؤوم ..

صباح يوم الرابع عشر من ديسمبر1956 ، وقف الشاب النحيل سيد عسران عند ناصية شارع رمسيس وبدا للناظرين وكأنه يقضم من رغيف خبز بيمينه ،

ماهي إلا لحظات قليلة حتي أقبل الصيد الثمين يرفل في بزته العسكرية مزهوا يخطر في خيلاء ويبدو من عليائه كفارس مغوار يمتطي صهوة جواده جالساًُ في مقعده الأمامي بسيارته الجيب مغروراً ، كان خارجاً لتوه من مبني شعبة البحث الجنائي القديم التي تقع أمام مسجد الرحمة " فاروق سابقاً "..

أشار سيد عسران للميجور المغرور بورقة كانت معه ، ظنها " ويليامز " شكوي يتقدم بها الفتي إليه فتوقف بسيارته ليتحري الأمر ، إلا أن الفتي عسران عاجله بإلقاء قنبلة كانت في رغيفه وونزع فتيلها وألقي بها في سيارة الميجور في لحظة نادرة لا تتكرر إلا نادراً وبسرعة فائقة انفجرت في " دواسة " سيارة الميجور الرهيب ..

في الحال سمع دوي انفجار عظيم في كل أرجاء المدينة ، وسري الخبر بين ربوعها مسري النار في الهشيم فيما كان الميجور ملقي في أرضية السيارة والدماء تنزف منه بغزارة ، تم بتروا ساقه في الحال ، وحملوه وهو يترنح جريحاً إلي المستشفي الميداني العسكري الذي يوجد في جزيرة قبرص ، وعلي الفور جرت محاولات مضنية لإسعافه ، ولكن شاء المولي سبحانه إن يلقي " ويليامز" حتفه علي الفور ..

راح جنود القوات المعتدية بهرولون في كل شوارع المدينة كالسكاري ويسيرون علي غير هدي ، وباءت كل المحاولات بالفشل الذريع فلم يعثروا علي ضالتهم المنشودة والتي تمثلت في البطل سيد عسران ..

من يومها والمدينة تحمل " عم سيد " بين جفنيها ، وتحتضنه بين ذراعيها ، فلا تغفو لها عين إلا بعد أن تطمئن عليه ..

وبعد رحلة عمر رائعة قدم للوطن من يحملون اسمه المشرف ،وتاريخه الرائع (بنتان وولد له منهم سبعة أحفاد ) مازالوا جميعاً يفخرون به ويزهون بتلك السطور الخالدة التي سطرها بدمه ..

وفي يوم الخامس من أبريل 2004 م ، ترجل الفارس عن جواده وحط برحاله في غربي مدينته الباسلة ،ليضمه ثراها الطاهر ، مدينته التي تباهت به ، وذكرته بكل الفخار فتي ذهبياً وابناً باراً من أعز أبنائها ، بعد رحلة كفاح استغرقت جل عمره، عاشها إنساناً بسيطاً زاهداً في محراب عشق الوطن..

وضرب سيد عسران للأجيال جميعاً أروع صور البطولة والنبل والفداء مسجلاً اسمه ضمن العمالقة الذين كانت سيرتهم علي الدوم نبراساً علي الطريق تهديهم إلي السبيل السوي وتمنح الجميع دروساً مجانية في قدسية الوطن ، وسطر بحروف من نور في سجل التاريخ اسمه في أروع ملحمة وأعظم أمثلة البذل والعطاء في سبيل الوطن..

كان سيد عسران بطلاً نموذجياً يحتذي به في تاريخ البطولات ضد قوي البغـي والعدوان التي لا تألوا جهداً في إجهاض أي روح للمقاومة.

***

كان علي أن أعانقه طويلاً ، فقد افتقدته منذ فترة، لكن صوته من الهاتف كان مؤنسي ، يأتيني في صدق وحميمية فيثلج صدري ..

في اللقاء الأخير كان عم سيد راقداً في فراشه بالمستشفي ، تأهب تماماً لملاقاة الموت دون أن يخشاه مستعداً للقاء وجه ربه في ثقة المؤمن وخشوع المتبتل ، وبروح عالـية من التفاؤل والبشر ..

حــين عرفت بوجوده في العاصمة للعلاج من المرض العضال زرته ،قضيت معه وقتاً طيباً ، تبادلنا معاً العديد من الكلمات ، كانت روحه وثابة غير يائسة من رحمة الله ، بشــوشاً مرحاً كعادته منذ أن عرفته ، لم ينس أن يحملني السلام أمانة لأخي الشاعر عبده العباسي الذي يعمل بدولة الكويت وقام بـ " تكبير" صورة سيد عسران ورفاقة حمدالله ومحمد مهران وباقي الرفاق مع الزعيم جمال عبد الناصر والمشير عامر، قال لي وهو يتسلمها مني بعد عناق طويل :

ـ الصورة دي أعظم تكريم لمواطن من قيادة بلده ..

قالها لي وأنا أقدمها له ـ في لقاء سابق ـ بالنيابة عن أخي وبالأصالة عن كل أبناء هذا الوطن الذين تربوا علي ثراه فعشقوا كل ذرة فيه ..

تجاذبنا أطراف الحديث ـ والحديث معه له شجون ـ رحت أربت علي كتفه:

ـ سلامتك ياعم سيد..

بوميض من عينيه نظر لي وابتسم :

ـ الله يسلمك..

مر بعض الوقت ، غفت عينه قليلاً ، في ثانية واحدة عاد ليقظته ، تهيأت لأن أغادره لكي يرتاح ،إلا أن يداً قوية أعادتني للجلوس ، كانت هي ذات اليد التي حملت القنبلة وألقت بها :

ـ علي فين ؟

ـ اسيبك تستريح شوية..

ـ أنا مستريح كده ..

مسد شعر رأسي مداعباً :

ـ شاب شعر رأسك ..

ـ وليس شيبي من سنين تتابعت

ولكن شيبتني الوقائع.

(كما قال الشاعر ياعم سيد ).

ضحك مقهقهاً :

ـ لكنك كنت صغيراً في زمن الحرب..

ـ كنت في سن الثالثة من عمري..

***

تحدرت دمعة من مقلتي ، صارت الدمعة غيمة ، والغيمة مطراً ، والمطر ينهمر فيزيل عن سنوات العمر البعيدة ما علق بها من غبار..

رأيتني صبياً صغيراً أسعي باحثاً عنه في طرقات المدينة كي أعرف حكايته ولأجري معه حواراً لمجلة المدرسة :

ـ والنبي ياعم سيد..

أشار لي كمؤدب يشير لتلميذه :

ـ اقعد..

قعدت.

وطلب لي علي الفور :

ـ واحد شاي فريسكا بسرعة ..

وأخذ يحكي علي مهل وأنا أكتب ..

قال :

ـ بطئ ، لكن خطك جميل..

وفي النهاية قال:

ـ آدي الحكاية يا أخويا من طقطق لسلاموا عليكو..

أثلج صدري حلو حديثه ، قطعت الطريق عدواً إلي البيت ، ونمت حتي الصباح محتضناً كراستي ، وطرت للمدرسة علي جناح الشوق ـ علي غير العادة مني ـ فوجدت معلمي محمد عزت عبد الرحمن مندور رحمه الله ـ سعيداً بهذا الظفر..

وكأنما أيقظني عم سيد بدعاباته :

ـ نحن هنا ، رحت فين أمال..

ـ فرحان بك ياعم سيد ، ربنا يشفيك..

غادرته ، لم أكن أعرف أنه المرة الأخيرة التي ألقاه فيها علي الرغم من اتفاقنا علي موعد حددناه معاً لتسجيل حوار شامل ،لكن يد المنون كانت الأسبق إليه ، قال كلمته الأخيرة :

ـ في أمان الله ، سلم لي علي كل الناس في بورسعيد ..

" وما تشاءون إلا أن يشاء الله".

وهكذا مات عم سيد ، ساعتها فقط دمعة تحدرت من مقلتي وتذكرت سيف الله المسلول البطل خالد بن الوليد وهو علي فراش الموت ..

" فلا نامت أعين الجبناء "..

كانت ثمة رفرفة لنسمة ربيعية أقبلت تهفهف مرحبة بروح البطل الذي لم تهزمه قوي العدوان ، ولم يقبض عليه ويليامز وظل منطلقاً في رحاب المدينة التي أحبته ..

وظل سيد عسران كطائر الفينيق ـ طائر خرافي زعم قدماء المصريين أنه يعمر خمسة قرون أو ستة ـ ينبعث من رماده بعد أن يحترق عنقاء كالشاب الجميل، والأسطورة توضح أنه يرمز لشروق الشمس وغروبها ..

سيظل طائر الفينيق كلما مر الوقت يجئ ليطًوف في أرجاء المدينة ، ويبقي أسطورة لفتي ذهبي أسطورة ترددها الأجيال في بورسعيد ومصر بأسرها ..

هذه تحية لروح البطل نتذكره في أيام ذكريات النصر وعبقها العظيم ، ولروح كل بطل ضحي من أجل وطنه  

(106)    هل أعجبتك المقالة (121)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي