
يعد المعلم هو صاحب ضربة المعول الأولي في الحقل الصغير المسمي بالطفل ، إذن فلا يمكن أن تمر تلك العلاقة سدي ودون أن تترك بصمة في حياة التلميذ منذ نعومة أظفاره ..
كان عبد الرحمن عرنوس هو المعلم الذي غرس بذرة الفن في نفس وروح كل من عرفه من التلاميذ أو الأصحاب ، كان عرنوس من فئة المعطائين بلا حدود بالعمل الدؤوب والجد والإجتهاد وبذل الجهد ، في حديثه وفي صمته علي حد سواء لا يكف عن الحركة ولا السكون ..
تأصلت بصمة عبد الرحمن عرنوس وتجذرت نبتاً صحيحاً في حياة كل من عرفوه ولم تترك أي خواء في تلك العلاقة التي يمكن أن توصف بالأبداع الراقي وتتسم بجلائل الموقف وعظيم التجربة والقدرة علي الصمود في مواجهة الزمن ..
ولا يمكن للمرء مهما كان أن ينسي معلمه الأول ، فهو الذي أمسك بالمعول في الأرض الجديدة وراح يبثها حنينه ويطرح في التربة البذور الأولي وراح يوليها بالري والرعاية ..
من هنا يجد المعلم الحقيقي من يخلده سواء في أعماقه التي يجتر منها ذكرياته ، أو يسجلها في أوراقه إذا شاء ، أو يرويها في كتاباته إن سنحت له الفرصة ..
***
مهنة المعلم هي من أشق المهن وأعظمها نبلاً ، مهنة الأنبياء والرسل ، ونجد أمير الشعراء أحمد شوقي يبجله :
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولاً
كان عبد الرحمن عرنوس معلماً فذاً سبق عصره وأوانه ، معلماً يؤدي مهام وظيفته بكل اتقان وتفانٍ في مدرسة الفاتح الإبتدائية بحي المناخ ببورسعيد وهي إحدي القلاع التربوية الهامة التي شكلت وجدان كل سكان الحي الشعبي الغزير بأبنائه الشرفاء ، فهل كان من الممكن أن يسّير القدر عبد الرحمن عرنوس ليستمر في درب التعليم بوظيفة " معلم إلزامي" الذي ظل فيه مجايليه في الترقي حتي وصلوا إلي سن المعاش ؟
من المؤكد أن بقدرته أن يكون من الناجحين في كل مجال ، فقد ولد عبد الرحمن عرنوس ليكون معلماً بالفعل ، معلماً مستنيراً تفوق بعبقرية غير مسبوقة وبنجاح لا نظير له في توصيل المعلومة إلي تلاميذه ولكنه ترك العمل بالتدريس لتلاميذ المرحلة الإبتدائية والقيود التي تفرضها الوظيفة بجداول الحصص وقوائم الفصول وشرح المناهج والتقويم والتقييم وأصبح عبد الرحمن عرنوس مدرسة وحده يؤمها الجميع لينهلوا من معين عطائه في كل الفنون المسرحية ..
***
كنا في أوائل أكتوبرعام 1959 م حين التحقت تلميذاً بمدرسة الفاتح الإبتدائية بحي المناخ أحد أعرق الأحياء الشعبية في بورسعيد أقطع الخطوات الأولي إلي جوار جدتي العجوز خائفاً من سجن أسوارها ، وجهامة الناظر وقسوة المعلم بعصاه التي تشق الهواء فيسقط القلب هلعاً ..
غير أنني رأيت في ذلك الصباح البعيد رأيت الفصل الدراسي أكثر رحابة من العالم بأسره ، حيث امتدت يد المعلم حانية تربت علي كتفي لتصطحبني إلي حيث أجلس علي " التختة" ..
رأيته للمرة الأولي شاباً جميل الطلعة ، ذا شعر كستنائي ، وعينان بلون الزرع أو لون مياه البحر المتوسط ـ لم أميز يومها ـ وظللت طوال معرفتي به لا أفكر إلا في أنه معلم مختلف عن باقي المعلمين ، ذا إبتسامة واسعة ، وحديث مرح ، وأناقة ملبس ، حازم الرأي وقت العمل ، باسم الثغر وقت الفراغ ، تنطلق من فمه الكلمات مدوية فتقتحم الأذن الصغيرة لتوقظها وتبث فيها الوعي في هذه السن الباكرة ..
إذن فلم يكن عرنوس معلماً نمطياً علي غرار زملائه بل كان متمرداً مثل البحر الهادر ، لا يكف عن شرح الدرس للتلاميذ وهم في انتباه شديد وكأن علي رؤوسهم الطير بأدائه المسرحي المنقطع النظير يقدمه بطريقة غيرمألوفة وبأسلوب غير معتاد فيحفظونها عن ظهر قلب ..
انتقي عرنوس فريق العمل من تلاميذ الفصل وتلاميذ الفصول الأخري ممن يجيدون القراءة والإلقاء لتدريبهم بشكل جديد مكوناً أول فريق للتمثيل سابقاً وزارة التربية والتعليم وكل الوسائل والأنماط التعليمية بما عرف بعد ذلك بـ " مسرحة المناهج" ..
***
كنا نعيش زمن المد الثوري والقومية العربية ، غرس عرنوس فينا حب جمال عبد الناصر وعشنا حلم تأميم القناة 1956م ، وانتصارنا في بورسعيد علي العدوان الثلاثي في نفس العام ..
واكب عرنوس أحلام ثورة يوليو ، أفراحها وأتراحها ، الوحدة بين مصر وسوريا ومحنة الإنفصال ، بناء السد العالي حتي جاءت الضربة القاصمة في يونيو 1967م..
***
كون عبد الرحمن عرنوس فريق الصاروخ للتمثيل والإلقاء وجعل علي رأسه ( القاهر والظافر) وعاش تلاميذه يقلدونه في سيره ووقوفه ، في نطقه وصمته ، في ضحكه وعبوسه ، مجموعة من الدراويش والمريدين يحملون عنه أوراقه حتي باب منزله ، يطمئنون علي وصوله ثم يقفل كل واحد منهم عائداً إلي بيته ..
***
عبد الرحمن عرنوس أيقونة بورسعيدية صرفة ، امترجت بحب الوطن الكبير وعشقت ثراه ، فنان بكل جوارحه يملأ النفس شجناً ويرصع كلماته المنطلقة كطلقات الرصاص بالأماني وعذب المعاني لا يقف بحواره عند حد معين بل يخترق كل الآفاق كصاروخ بعيد المدي يتأجج بحب الوطن والناس ، لا يكف عن العمل فيغرس بذوره في كل حقل تطأه رجله ، ولا ينتهي عن التحليق في كل سماء حل تحتها ، لا شئ يغنيه عن احتضان المواهب الواعدة فيلهمها من عطاياه ونفحاته دون كلل أو ملل ، لا يعتريه تعب كأنما من تحته الريح كما يقول المتنبي ..
أسدل الموت ستاره ليحجب عنا عبد الرحمن عرنوس، ولكنه لم يرحل سدي ، فقد ترك من بعده أجيالاً امتدت جذورها في كل الأرض العربية من تلاميذ لم يحصهم عدداً ، ولم ولن تذهب سيرته بينهم بدداً ..
كرس عبد الرحمن عرنوس رحلة حياته للمسرح وقدم كتباً في فنونه المتعددة تعد حجر الزاوية في تدريب وإعداد الممثل وتأهيله لتتخرج علي يديه مواهب بلا حصر ..
وحين حاقت بالوطن هزيمة يونيو 1967م ظل الجميع يعاني وقعها الأليم ، وخرجت من بين الألم آمال وأحلام كبار تجلت في عزيمة الرجال والتدريب المستمر لتحقيق النصر ، وتولدت من رحم الجماهير العديد من فرق المقاومة الشعبية ، وهتفت فرق السمسمية علي طول القناة فرقة شباب النصر في بورسعيد بقيادة الشاعر كامل عيد وفرقة أولاد الأرض في السويس بقيادة كابتن غزالي وفرقة شباب الصامدين بقيادة حافظ الصادق بينما أسس عبد لرحمن عرنوس فرقة شباب البحر واتخذ يؤلف الأغاني فترتفع وتصدح أوتارآلة السمسمية الساحرة التي شكلت بثرائها عالماً غنياً وخصباً النغم الشعبي علي امتداد منطقة القناة الزاخرة بالعطاء والفداء والمقاومة ..
***
وفي خلال سنوات الإعداد والتأهب للثأر من العدو الإسرائيلي وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فبعد ثلاث سنوات مات جمال عبد الناصر ، وخرجت الجماهير العربية في كل أنحاء الوطن العربي عن بكرة أبيها تودع زعيمها بمرثاة تلقائية رددتها ألسنة الناس سطرها علي الفور يراع عبد الرحمن عرنوس " الوداع ياجمال ياحبيب الملايين / ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين / انت عايش ف قلوبنا ياجمال الملايين / انت ثورة انت جمرة / انت نوارة بلدنا وإحنا لوعنا الحنين / انت أنهار مية صافية تسقي كل العطشانين / انت قنديل الغلابة تهدي كل الحيرانين / انت ريحانة زكية في قلوب الفلاحين / انت جمعت بعزيمتك النفوس الغضبانين / ياحبيب الإنسانية لأجل كل الإنسانية"..
***
قطع عبد الرحمن عرنوس طوال رحلة حياته باحثاً عن الحقيقة يقطع الدروب والفيافي ، ويطرق كل الأبواب التي انفتحت رحبة تحتضن الموهبة غير المألوفة لـ " المعلم الإلزامي" الذي ترك المدرسة الإبتدائية بتلاميذها الذين انتظروا طويلاً عودته والتحق بأكاديمية الفنون وتخرج فيها عام 1965م وعين معلماً بها حتي العام 1983م ثم سافرإلي المملكة الأردنية الهاشمية ليعمل هناك وليضع أساساً شامخاً للمسرح الأردني حيث عمل مدرساً في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك هناك ، وأنشأ في " المختبر المسرحي " واهتم بالمسرح التجريبي الذي ظل علي مدي مايقرب من ربع قرن من الزمان منجماً ثرياً يقدم في كل عام النجباء من الطلاب ..
تجاوز عبد الرحمن عرنوس كل ماهو سائد ومألوف وقد كرمته المملكة الأردنية الهاشمية بمنحه ميدالية الملك الحسين بن طلال في العام 1995 م تكريماً لما قدمه من إبداع حقيقي في خلال فترة عمله هناك ..
وفي مصر كانت له أيادٍ بيضاء علي فنانين تركوا بصمة ذات تأثير في ساحة الحركة الفنية من أمثال الراحل أحمد زكي والرائع محمد صبحي والفنانة إلهام شاهين والفنان الشاب أحمد السقا .
ولد عبد الرحمن عرنوس في العام 1934م بمدينة الأسكندرية لأسرة مصرية تمت أصولها لمدينة المطرية دقهلية ، وعاش فترة حياته الأولي وصدر شبابه في المدينة الساحرة بورسعيد التي ألهبت خياله ، وعاصر زمن العدوان الثلاثي علي أرضها فأشتعلت في صدره أوار الثورات مبكراً فنشأ عاشقاً ولهاناً نذر روحه ونفسه لها ، محباً لثراها وناسها وتاريخها ولياليها وسهرها وقدم نفسه قرباناً بموهيته لإعداد أجيال لن تنسي دوره ..
***
كانت بداية شهرته حين قام بدور " ريتشارد الثالث" لمسرح التليفزيون المصري ، وادي دوراً هاماً في مسرحية البؤساء ، ودور الصعلوك في مسرحية زيارة السيدة العجوز وقام بدور الجنرال كليبر في مسرحية حياتي والزمن ، كما شارك في العديد من الأدوار عبرشاشة التليفزيون ، كما قدم من خلال رحلته المسرحية نموذجاً لمسرح السيارة ، ومسرح الصيادين ومسرح المناقشة ومونودراما المسرح ولكنه كان يحلم بتحقيق الهدف الأكبر ، حلم خلق أجيال مسرحية تحمل مشاعل التنوير ، كما ترك لها زاداً تمثل في العديد من المؤلفات الهامة التي تعد نبراساً يهتدون به .
ـــــــــــــــــــــــ
بورسعيد
مصر
كان عبد الرحمن عرنوس هو المعلم الذي غرس بذرة الفن في نفس وروح كل من عرفه من التلاميذ أو الأصحاب ، كان عرنوس من فئة المعطائين بلا حدود بالعمل الدؤوب والجد والإجتهاد وبذل الجهد ، في حديثه وفي صمته علي حد سواء لا يكف عن الحركة ولا السكون ..
تأصلت بصمة عبد الرحمن عرنوس وتجذرت نبتاً صحيحاً في حياة كل من عرفوه ولم تترك أي خواء في تلك العلاقة التي يمكن أن توصف بالأبداع الراقي وتتسم بجلائل الموقف وعظيم التجربة والقدرة علي الصمود في مواجهة الزمن ..
ولا يمكن للمرء مهما كان أن ينسي معلمه الأول ، فهو الذي أمسك بالمعول في الأرض الجديدة وراح يبثها حنينه ويطرح في التربة البذور الأولي وراح يوليها بالري والرعاية ..
من هنا يجد المعلم الحقيقي من يخلده سواء في أعماقه التي يجتر منها ذكرياته ، أو يسجلها في أوراقه إذا شاء ، أو يرويها في كتاباته إن سنحت له الفرصة ..
***
مهنة المعلم هي من أشق المهن وأعظمها نبلاً ، مهنة الأنبياء والرسل ، ونجد أمير الشعراء أحمد شوقي يبجله :
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولاً
كان عبد الرحمن عرنوس معلماً فذاً سبق عصره وأوانه ، معلماً يؤدي مهام وظيفته بكل اتقان وتفانٍ في مدرسة الفاتح الإبتدائية بحي المناخ ببورسعيد وهي إحدي القلاع التربوية الهامة التي شكلت وجدان كل سكان الحي الشعبي الغزير بأبنائه الشرفاء ، فهل كان من الممكن أن يسّير القدر عبد الرحمن عرنوس ليستمر في درب التعليم بوظيفة " معلم إلزامي" الذي ظل فيه مجايليه في الترقي حتي وصلوا إلي سن المعاش ؟
من المؤكد أن بقدرته أن يكون من الناجحين في كل مجال ، فقد ولد عبد الرحمن عرنوس ليكون معلماً بالفعل ، معلماً مستنيراً تفوق بعبقرية غير مسبوقة وبنجاح لا نظير له في توصيل المعلومة إلي تلاميذه ولكنه ترك العمل بالتدريس لتلاميذ المرحلة الإبتدائية والقيود التي تفرضها الوظيفة بجداول الحصص وقوائم الفصول وشرح المناهج والتقويم والتقييم وأصبح عبد الرحمن عرنوس مدرسة وحده يؤمها الجميع لينهلوا من معين عطائه في كل الفنون المسرحية ..
***
كنا في أوائل أكتوبرعام 1959 م حين التحقت تلميذاً بمدرسة الفاتح الإبتدائية بحي المناخ أحد أعرق الأحياء الشعبية في بورسعيد أقطع الخطوات الأولي إلي جوار جدتي العجوز خائفاً من سجن أسوارها ، وجهامة الناظر وقسوة المعلم بعصاه التي تشق الهواء فيسقط القلب هلعاً ..
غير أنني رأيت في ذلك الصباح البعيد رأيت الفصل الدراسي أكثر رحابة من العالم بأسره ، حيث امتدت يد المعلم حانية تربت علي كتفي لتصطحبني إلي حيث أجلس علي " التختة" ..
رأيته للمرة الأولي شاباً جميل الطلعة ، ذا شعر كستنائي ، وعينان بلون الزرع أو لون مياه البحر المتوسط ـ لم أميز يومها ـ وظللت طوال معرفتي به لا أفكر إلا في أنه معلم مختلف عن باقي المعلمين ، ذا إبتسامة واسعة ، وحديث مرح ، وأناقة ملبس ، حازم الرأي وقت العمل ، باسم الثغر وقت الفراغ ، تنطلق من فمه الكلمات مدوية فتقتحم الأذن الصغيرة لتوقظها وتبث فيها الوعي في هذه السن الباكرة ..
إذن فلم يكن عرنوس معلماً نمطياً علي غرار زملائه بل كان متمرداً مثل البحر الهادر ، لا يكف عن شرح الدرس للتلاميذ وهم في انتباه شديد وكأن علي رؤوسهم الطير بأدائه المسرحي المنقطع النظير يقدمه بطريقة غيرمألوفة وبأسلوب غير معتاد فيحفظونها عن ظهر قلب ..
انتقي عرنوس فريق العمل من تلاميذ الفصل وتلاميذ الفصول الأخري ممن يجيدون القراءة والإلقاء لتدريبهم بشكل جديد مكوناً أول فريق للتمثيل سابقاً وزارة التربية والتعليم وكل الوسائل والأنماط التعليمية بما عرف بعد ذلك بـ " مسرحة المناهج" ..
***
كنا نعيش زمن المد الثوري والقومية العربية ، غرس عرنوس فينا حب جمال عبد الناصر وعشنا حلم تأميم القناة 1956م ، وانتصارنا في بورسعيد علي العدوان الثلاثي في نفس العام ..
واكب عرنوس أحلام ثورة يوليو ، أفراحها وأتراحها ، الوحدة بين مصر وسوريا ومحنة الإنفصال ، بناء السد العالي حتي جاءت الضربة القاصمة في يونيو 1967م..
***
كون عبد الرحمن عرنوس فريق الصاروخ للتمثيل والإلقاء وجعل علي رأسه ( القاهر والظافر) وعاش تلاميذه يقلدونه في سيره ووقوفه ، في نطقه وصمته ، في ضحكه وعبوسه ، مجموعة من الدراويش والمريدين يحملون عنه أوراقه حتي باب منزله ، يطمئنون علي وصوله ثم يقفل كل واحد منهم عائداً إلي بيته ..
***
عبد الرحمن عرنوس أيقونة بورسعيدية صرفة ، امترجت بحب الوطن الكبير وعشقت ثراه ، فنان بكل جوارحه يملأ النفس شجناً ويرصع كلماته المنطلقة كطلقات الرصاص بالأماني وعذب المعاني لا يقف بحواره عند حد معين بل يخترق كل الآفاق كصاروخ بعيد المدي يتأجج بحب الوطن والناس ، لا يكف عن العمل فيغرس بذوره في كل حقل تطأه رجله ، ولا ينتهي عن التحليق في كل سماء حل تحتها ، لا شئ يغنيه عن احتضان المواهب الواعدة فيلهمها من عطاياه ونفحاته دون كلل أو ملل ، لا يعتريه تعب كأنما من تحته الريح كما يقول المتنبي ..
أسدل الموت ستاره ليحجب عنا عبد الرحمن عرنوس، ولكنه لم يرحل سدي ، فقد ترك من بعده أجيالاً امتدت جذورها في كل الأرض العربية من تلاميذ لم يحصهم عدداً ، ولم ولن تذهب سيرته بينهم بدداً ..
كرس عبد الرحمن عرنوس رحلة حياته للمسرح وقدم كتباً في فنونه المتعددة تعد حجر الزاوية في تدريب وإعداد الممثل وتأهيله لتتخرج علي يديه مواهب بلا حصر ..
وحين حاقت بالوطن هزيمة يونيو 1967م ظل الجميع يعاني وقعها الأليم ، وخرجت من بين الألم آمال وأحلام كبار تجلت في عزيمة الرجال والتدريب المستمر لتحقيق النصر ، وتولدت من رحم الجماهير العديد من فرق المقاومة الشعبية ، وهتفت فرق السمسمية علي طول القناة فرقة شباب النصر في بورسعيد بقيادة الشاعر كامل عيد وفرقة أولاد الأرض في السويس بقيادة كابتن غزالي وفرقة شباب الصامدين بقيادة حافظ الصادق بينما أسس عبد لرحمن عرنوس فرقة شباب البحر واتخذ يؤلف الأغاني فترتفع وتصدح أوتارآلة السمسمية الساحرة التي شكلت بثرائها عالماً غنياً وخصباً النغم الشعبي علي امتداد منطقة القناة الزاخرة بالعطاء والفداء والمقاومة ..
***
وفي خلال سنوات الإعداد والتأهب للثأر من العدو الإسرائيلي وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فبعد ثلاث سنوات مات جمال عبد الناصر ، وخرجت الجماهير العربية في كل أنحاء الوطن العربي عن بكرة أبيها تودع زعيمها بمرثاة تلقائية رددتها ألسنة الناس سطرها علي الفور يراع عبد الرحمن عرنوس " الوداع ياجمال ياحبيب الملايين / ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين / انت عايش ف قلوبنا ياجمال الملايين / انت ثورة انت جمرة / انت نوارة بلدنا وإحنا لوعنا الحنين / انت أنهار مية صافية تسقي كل العطشانين / انت قنديل الغلابة تهدي كل الحيرانين / انت ريحانة زكية في قلوب الفلاحين / انت جمعت بعزيمتك النفوس الغضبانين / ياحبيب الإنسانية لأجل كل الإنسانية"..
***
قطع عبد الرحمن عرنوس طوال رحلة حياته باحثاً عن الحقيقة يقطع الدروب والفيافي ، ويطرق كل الأبواب التي انفتحت رحبة تحتضن الموهبة غير المألوفة لـ " المعلم الإلزامي" الذي ترك المدرسة الإبتدائية بتلاميذها الذين انتظروا طويلاً عودته والتحق بأكاديمية الفنون وتخرج فيها عام 1965م وعين معلماً بها حتي العام 1983م ثم سافرإلي المملكة الأردنية الهاشمية ليعمل هناك وليضع أساساً شامخاً للمسرح الأردني حيث عمل مدرساً في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك هناك ، وأنشأ في " المختبر المسرحي " واهتم بالمسرح التجريبي الذي ظل علي مدي مايقرب من ربع قرن من الزمان منجماً ثرياً يقدم في كل عام النجباء من الطلاب ..
تجاوز عبد الرحمن عرنوس كل ماهو سائد ومألوف وقد كرمته المملكة الأردنية الهاشمية بمنحه ميدالية الملك الحسين بن طلال في العام 1995 م تكريماً لما قدمه من إبداع حقيقي في خلال فترة عمله هناك ..
وفي مصر كانت له أيادٍ بيضاء علي فنانين تركوا بصمة ذات تأثير في ساحة الحركة الفنية من أمثال الراحل أحمد زكي والرائع محمد صبحي والفنانة إلهام شاهين والفنان الشاب أحمد السقا .
ولد عبد الرحمن عرنوس في العام 1934م بمدينة الأسكندرية لأسرة مصرية تمت أصولها لمدينة المطرية دقهلية ، وعاش فترة حياته الأولي وصدر شبابه في المدينة الساحرة بورسعيد التي ألهبت خياله ، وعاصر زمن العدوان الثلاثي علي أرضها فأشتعلت في صدره أوار الثورات مبكراً فنشأ عاشقاً ولهاناً نذر روحه ونفسه لها ، محباً لثراها وناسها وتاريخها ولياليها وسهرها وقدم نفسه قرباناً بموهيته لإعداد أجيال لن تنسي دوره ..
***
كانت بداية شهرته حين قام بدور " ريتشارد الثالث" لمسرح التليفزيون المصري ، وادي دوراً هاماً في مسرحية البؤساء ، ودور الصعلوك في مسرحية زيارة السيدة العجوز وقام بدور الجنرال كليبر في مسرحية حياتي والزمن ، كما شارك في العديد من الأدوار عبرشاشة التليفزيون ، كما قدم من خلال رحلته المسرحية نموذجاً لمسرح السيارة ، ومسرح الصيادين ومسرح المناقشة ومونودراما المسرح ولكنه كان يحلم بتحقيق الهدف الأكبر ، حلم خلق أجيال مسرحية تحمل مشاعل التنوير ، كما ترك لها زاداً تمثل في العديد من المؤلفات الهامة التي تعد نبراساً يهتدون به .
ـــــــــــــــــــــــ
بورسعيد
مصر
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية