باريس قامت بـ"ذبح" القيم التي ترفعها الدولة الفرنسية منذ عقود طويلة.
ما تزال السياسة الخارجية لفرنسا تنحدر من هاوية إلى أخرى، على يد الرئيس "إيمانويل ماكرون"، فبعد تصريحاته التي أغضبت مئات ملايين المسلمين حول العالم، وإصراره على تبني الرسوم الافترائية بوصفها تجسيدا لحرية التعبير، جاء دور دعم الديكتاتور الذي يتربع على عرش أكبر دولة عربية بقوة البسطار العسكري.
فخلال لقائهما اليوم في باريس، منح "ماكرون" لرئيس مصر "عبدالفتاح السيسي"، ضوءا أخضر، لا بل ما يسمى "carte blanche"، وهو تعبير فرنسي محض يخص منح طرف لطرف آخر حرية التصرف المطلق في قضية ما.. وهذه القضية التي منح فيها "ماكرون" لحاكم مصر العسكري صكا على بياض، لم تكن سوى حقوق الإنسان، التي يفترض أن فرنسا أحد حماتها، على الأقل من يوم قيام الثورة الفرنسية.
فبلا مواربة، ولا اختباء خلف العبارات الدبلوماسية، قال "ماكرون" للسيسي إن مبيعات الأسلحة الفرنسية لنظامه سوف تستمر، ولن تنقطع ولن يتم ربطها بملف حقوق الإنسان في مصر، الذي لم تترك منظمة عالمية معنية الحديث عنه وعما يشوب مشهده من سوداوية، منذ صعود السيسي إلى قمة هرم السلطة، بانقلاب عسكري على أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد، محمد مرسي.
تصريحات "ماكرون" كانت واضحة ومحددة في هذا السياق، ونقلتها كل وسائل الإعلام الفرنسية، منوهة أن سيد الإليزية رأى أن استمرار تسليح السيسي ونظامه، يضمن محاربة "الإرهاب" و"التطرف"، وأن ربط ملف التسليح بقضية حقوق الإنسان، من شأنه أن يعيق صفقات السلاح، وبالتالي من شأنه إضعاف السيسي الذي يقف على ثغر مهم من ثغور محاربة الإرهاب والتطرف، وفق المفهوم الفرنسي.
المثير للمرارة في موقف فرنسا من تسليح السيسي، رغم معرفتها إلى من يوجه هذا السلاح ولماذا يستخدم.. المثير للمرارة أنه لم يقم بـ"ذبح" القيم التي ترفعها الدولة الفرنسية منذ عقود طويلة، بل إنه داس أيضا على كل تقارير المنظمات الحقوقية ونداءاتها، ومن آخرها نداء مشترك لـ20 منظمة، انتقد شراكة فرنسا الاستراتيجية مع مصر، وذكّر باريس بأن مصر تحت قيادة السيسي "تستخدم بشكل مسيء تشريعات مكافحة الإرهاب للقضاء على العمل المشروع لصالح حقوق الإنسان، وقمع كل معارضة سلمية في البلاد".
ورغم الثقل الاقتصادي الكبير لصفقات التسليح الفرنسية التي تعقدها مع القاهرة، حيث تعد فرنسا ثاني مورد سلاح لنظام السيسي بعد الولايات المتحدة.. رغم هذا الثقل الكبير وتأثيره البالغ لاسيما في زمن كورونا حيث شحت موارد الدول، ومن بينها فرنسا، فإن إصرار "ماكرون" على تسليح السيسي وتأكيده على هذا التسليح بشكل فج، يبدو أن له غاية أخرى في منطق الرئيس الفرنسي، الذي يريد تنصيب نفسه المحارب الأول لـ"التطرف الإسلامي" كما يسميه هو، ولابد أن بحاجة لشرطي "أمين" في المنطقة يعاونه، ويكون يدا باطشة له في المنطقة، من منطلق أن "أهل مكة أدرى بشعابها" وأن أهل القوة العسكرية أقدر وأخبر بالتعامل مع الشعوب الساعية لنيل حقوقها، وهم "الأنسب" لتنفيذ ما لاتريد فرنسا ولا غيرها من الدول "تلويث" يدها وسمعتها به.
لقد أعطى إصرار "ماكرون" على تسليح السيسي اليوم، حتى ولو كانت الفاتورة من دماء وأرواح وكرامات المصريين.. أعطى دليلا إضافيا للشعب المصري ولشعوب المنطقة، بأن من يتربعون على عروش البلاد ورؤوس العباد، ليسوا سوى "كومبارس" في مسلسل الانتهاكات، أما أصحاب "أدوار البطولة" فهم هناك بعيدون جغرافياً ولكنهم في صميم قرارات الإبادة والاستباحة، التي يسهرون على استمرارها، تارة بسحب أداة الجريمة من المجرم بزعم معاقبته (كما في صفقة الكيماوي مع بشار خريف 2013)، وتارة أخرى بتسليح مجرم آخر بزعم محاربة الإرهاب والتطرف.
زمان الوصل - تحليل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية