أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

خطوط العمر .. محمد عبده العباسي

 مهداة إلي حفيدي أنس .."

شكوت لجدي ضيق صدري من قيظ الخليج ومن حرارة الجو هناك ..
***
حنق علّي أبي ، ضمتني أمي لصدرها ، وقبل أن تودعني صدر جدي قست علي صالة الوداع في المطار بهوائها المكيف القارس ، في حنو بالغ ضمني جدي إلي صدره ، ولولا دفئه لمت من البرودة ..
لحق أبي بالطائرة التي تقله إلي الخليج قبل إقلاعها بقليل ، شعرت بقهرولمحت دمعة ساخنة سقطت عنوة علي وجنة أمي التي اكتنفها حزن شديد ، ومضت تجرجر خطوها منهزمة نحو أبي الذي حصل علي ختم المغادرة ..
وقع الأختام ، سنابك خيل تطاردني في فيافي الدنيا ، شقي رحي تطحن عظامي ،عقلي طار ، وقلبي انفطر .
***
حملني جدي في مقلتيه ، وملكت جدتي كل حواسي ، تأصلت علاقتي بهما ..
جدي أحيل إلي التقاعد قبل عام ، بيته يطل علي شفا البحر الذي عشقه وغرس عشقه في نفسي ..
***
كل صيف يعود أبي لنقضي أيامه علي الشاطئ ، يهتم جدي بي لئلا أغرق وأنا أسبح ، وينشغل أبي بتجديد أوراق السفر :
ـ التوقيعات والأختام عمل مرهق ..
يعود أبي لسفره المتواصل ،وأذهب أنا إلي مدرستي ..
***
مع جدي أقضي أوقات فراغي ، أقرأ مثلما يقرأ ، أرسم الأشياء مثله ، أقلد خطه الجميل المنمق ..
وعيت علي الحياة لأري جدي وحيداً في شرفته ، يجلس بالساعات ، اشتري هذا البيت بعد أن دفع فيه مدخرات العمر :
ـ لم يعد هاتفك الخلوي يرن كسابق عهده ..
قلت له ، ضمني إلي صدره وقال :
ـ هذا هو حال الدنيا !!
أبتسم وأنا أتذكر بشراً بلا حصر كانوا يلاطفونني ويأتون لي بقطع الشيكولاتة التي أحبها ، يهتدون برأيه ، ينتظرون من هاتفه كلمة تفتح لهم الأبواب المغلقة ، الآن انقطعوا عن زيارته ولم يعد يذكره أحد ، صار يقول :
ـ يكفيني أنك بجواري ..
**
أقف ملتصقاً بالباب لأنفذ أمره ، يمسد شعر رأسي بحنو معهود:
ـ اثبت ..
أثبت في مكاني بمحاذاة رأسي يرسم خطاً أفقياً بإصبع الطباشير :
ـ صرت أطول قامة عن العام الماضي ، اذكرهذا لأبيك ..
جدتي أعدت " التورتة " يتوسطها الرقم ِ6" " لتحافل بعيد ميلادي :
ـ ستلتحق بالصف الأول هذا العام ..
قال جدي :
ـ في العام القادم ذكرني بعيد ميلادك مبكراً.
***
قال جدي :
ـ هذا ميراثي . وأشار إلي مكتبة ضخمة تحوي كتباً لا حصر لها . وأردف :
ـ لك تلك الصناديق أيضاً فهي ثروة ..
حوت الصناديق أقلاماً شتي :
ـ اشتريتها من كل بقاع الدنيا ..
يعرف جدي نهمي للقراءة والكتابة والرسم ، ويعرف مدي تعلقي بها ..
***
أمسك بالفرشاة ، أمزج الألوان ، أرسم شمساً ونهاراً سخياً وسماء زرقاء ، أرسم قمراً منيراً وليلاً ساجياً ، أرسم بحراً وسفناً تمخر عبابه وأسماكاً في أعماقه ، أرسم شجراً وثماراً ومروجاً ، أرسم نهراً وحقولاً وحيوانات ، ويؤكد لي :
ـ رائع ، سأدعو أصحابي لزيارة معرضك الجميل ...
أهز رأسي متباهياً بشهادته ، يضحك وهو يلتقط فنجان القهوة الذي أعدته جدتي بعناية ، ويشير إلي جهة الأفق :
ـ هناك سحابة رمادية تنبئ بمطرسينهمر بعد قليل ..
يسكن داخل معطفه الثمين ، ويدس رجليه في جوربين ، ينفخ في قبضتيه ، ويسأل :
ـ هل تشعر بالبرد ؟.
***
يمسك قلماً وبتأن بالغ يكتب آية قرآنية :
ـ سأعلمك الخط ..
ورسم حروفاً :
ـ خط الُثلث هو سيد الخطوط جميعاً ..
أحاول فك طلاسم حروفه المتداخلة التي يخطها بمهارة ، أراقبه حتي انتهي منها :
ـ مارأيك ؟
***
تتوالي الأعوام ..
جدي يشير علي خطوط الطباشير :
ـ قامتك ازدادت طولاً ، ستصبح رجلاً في القريب العاجل ..
***
بقدوم أبي من سفره الأخير ، جاء رجال طوال القامة ، أمسكوا بفرشاتهم الضخمة راحوا يبدلون كل ألوان البيت ، الجدران ، النوافذ ، الأبواب ..
غطوا خطوط الطباشير ، كدت أصرخ فيهم ، بعدها أراد جدي أن يرسم خطاً جديداً ، رفضت الإنصياع لأوامره ، حاول استقطابي بوعود جمة :
ـ سنخرج لنلهو فوق رمال الشاطئ..
استسلم، أمسك بإصبع الطباشير ، حاول أن يرسم خطاً ، لم يقدر علي أن يبلغ طولي ، قصرت قامته ، جاء بكرسي لكنه خشي أن يسقط من فوقه ..
***
لأول مرة وعن كثب رأيت خطوطاً أفقية ارتسمت علي جبهته العمر ..
***
عاوده الأطباء ، جدتي تربت علي كتفه ، تمدد في فراشه نحيلاً مثل عود من الحطب الجاف ، قال وشفتاه ترتعشان :
ـ لا تنس وصاياي ..
***
وبينما تلقمه جدتي كف جدي قرص دواء أشارت يده علي الآية التي خطها بيراعه:
" كل نفس ذائقة الموت "..
وانبعث صوت الشيخ محمد رفعت من الراديو الصغير الذي ظل محتفظاً به ، وتفصدت حبات عرق كاللؤلؤ المكنون علي جبهته ، احتوتها خطوط العمر برفق ***
أغمض عينيه ، ردد الشهادة بعد أن تلاها أبي ..
و......
* * *

كاتب مصري
(80)    هل أعجبتك المقالة (76)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي