يكثر الضجيج حول الانتخابات الأهم في العالم، وتستعاد للمرة الثانية كبوة مؤسسات استطلاع الرأي، لكن هذه المرة ليس بسبب قلة مهنيتها أبداً.
إن أسباب فشل مؤسسات استطلاع الرأي الكبرى، التي أشارت لموجة (زرقاء) أي ديموقراطية، تحسم الانتخابات دون كثير عناء.
غاب عنها عامل هام للغاية، وهو أن أغلب أولئك الذين كانت الاستطلاعات تتوجه إليهم بالسؤال، لمن ستصوت في الانتخابات؟ وكان جوابهم (لم أحدد مرشحي بعد)! كانوا جمهوريين في الحقيقة.
وما سر عدم البوح منذ البداية بأنهم يميلون لانتخاب (ترامب) سوى أن ظاهرة عنصرية موالية لترامب، ومعادية للمتظاهرين من أجل حقوق الأمريكيين من أصل إفريقي، تتملك أجزاء هامة من المجتمع الأمريكي. ويفضل الغارقون فيها عدم الإعلان عن أنفسهم، إلا في زمان ومكان محددين.
وقد يكون بعض الإعلان عن النفس، خارج اللعبة الانتخابية أصلاً، أي ربما في الشارع ! وها نحن نراهم بالفعل، في نيويورك وولايات أخرى، لا بل ونرى منافسيهم أيضاً وقد شمر الكل عن الساعد، في ظاهرة تبلور استعداداً نفسياً لممارسة العنف والعنف المضاد في الشارع.
سينبري الكثيرون للشماتة بأمريكا، وسيتفنن حزب كبير من ظهرانينا للإشارة بالبنان، أن انظروا هذه سيدة الديموقراطية في العالم، وهي تنشر غسيلها الوسخ أمام الأمم! وسيكتبون شعراً في هجائها، ومدح (نيرون المحلي)! ولقد بدؤوا بصراخهم بالفعل.
إن الولايات المتحدة اليوم تمر بإرهاص طبيعي للغاية، قد يستمر فترة من الزمن، وقد يكون له تبعات على (المنظومة الحقوقية) الأمريكية، أي ربما ينتج تعديلات في الدستور، أو في القوانين، وربما يطال هذا الأمر القانون الانتخابي.
إلا أن الأساس الذي لا بد من رؤيته والتركيز عليه، هو أن الأمة الأمريكية صارت أمة بالفعل برغم مئات التناقضات الداخلية، لأنها صنعت مؤسسات وطنية، قادرة على ابتلاع أكبر (حوت) يمكن أن يأتي ليبتلع أمريكا نفسها. وعلى كل المحللين السياسيين، والاقتصاديين أيضاً ممارسة التواضع والكف عن ممارسة الهمرجة الفكرية، عن قيام حرب أهلية لن تبقي ولن تذر في الولايات المتحدة، ونهاية العالم الاقتصادي الذي نعرفة بالتالي، وانهيار اتفاقية بيرتن وودز (التسعير بالدولار)، وكل هذا الكلام الهرطقي.
نعم إن الولايات المتحدة تمر في زمن مخاض، قد يشبه الأزمنة الكبرى التي مرت عليها، مثل كساد الثلاثينيات، وعصابات المافيا، وتظاهرات الحقوق والحريات (مارتن لوثر كينغ) إلا أنه على كل عاقل، أن يرى بأن الزمن الذي تلى الحرب الأهلية، ووحدة الشمال والجنوب، قد صنع أهم فيدرال، وأعقد فيدرال، وأنجح فيدرال في العالم..ذاك الفيدرال الذي سيحتاج لعدة عقود فقط من الزمن لينتقل من حالة فصل عنصري بين البيض والسود، إلى مجيء رئيس من أصول افريقية إلى البيت الأبيض.
إن سر الانتصار كله الذي تغابى عنه السوفييت يوماً، ومرروا هذا الغباء لكل حركات التحرر التي فشل أغلبها، وتحولت دولها إلى جمهوريات وراثية، هو الانقلاب السلمي الموسمي كل أربع سنوات.. والخطر الذي يمر بالولايات المتحدة الآن سببه أن (ترامب) قرر أن يغش في قوانين اللعب، وألا يمرر خسارته (المحتملة) سلمياً، وجهر بهذا الأمر. وقد أسعد هذا الجهر أولئك الذين يريدونها صراعاً شوارعياً، ومعارك زعران ! وليست هذه الظواهر التي ستكشر عن أنيابها في الولايات المتحدة، سوى تحدّ جديد أمام الحرية، سوف تكون قادرة على الانتصار عليه.
إن الفائز الحقيقي في الانتخابات الامريكية سيكون على الدوام (المؤسسة) وليس الشخص، و(المؤسسة) سوف تستطيع احتواء التحديات.
إن دق الطبول عند محبي (نيرون المحلي)، وكل (نيرونات العالم)، دق كريه يحتفل في الحقيقة بقتل الطفلة البريئة "ريماس" في مدرستها في أريحا، وقتل كل الأبرياء، والرقص في كل ولائم الظلام عبر التاريخ..ونحن إذ نرفض الكثير من سياسيات الولايات المتحدة عندنا، نشير فقط إلى (المؤسسة) الداخلية الأمريكية، التي شرعتها من أجل إدارة الاختلاف الوطني على الدوام، بطريقة استعدادية وتطبيقية، تجعل العقل يرضى، لا قلة العقل وقلة الضمير هي التي ترضى.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية