هل كان لابد لقتله من عبوة مفخخة، تبتر كلتا قدميه، وتحيل جسده وسيارته أشلاء متناثرة؟ أما كان يكفي لإنهاء حياته رصاصة في الرأس أو في القلب؟ أم لعلّ الرصاصة لا تروي غلّ الحاقدين، فقد تغير سمتها، أو ربما تعتذر عما تفعل؟ أو لأنها تتطلب حضوراً ومواجهة لايجرؤ الجبناء عليهما؟
ولعلّ سوريّاً أنضجته الحرب لا الشيخوخة ومرت عليه ألوان الموت كلها -مرة ً حين أخطأته رصاصة فأتت على أخيه، ومرة ً أَسقط َ برميل متفجر سقف بيته، فكان الناجيَ الوحيد من الموت، فيما بقية عائلته نجوا من الحياة - هذا السوري سيقول بكل ما أوتي من حكمة: إنه في الحالين ميت، فقد تتعدد الأسباب والموت واحد.
نعم ولكنه كان قاضيا طاعناً في الإنسانية، ما آمن بالحرب التي فُرضت على شعبه، ولم يحمل يوماً سلاحاً، وحين اصطاد صديق له في القرية حمامة، قال له: أنت مجرم !!
كان مجرد سلاحه الفكر والقلم والكلمة، وغايته: أن تسود العدالة بين بني البشر، وحكمته التي ظلت معلقة على جدار صفحته الشخصية على "فيسبوك" بعد أن رحل: (عدل ٌ قائم خير من عطاء دائم).
أول الباكين عليه أنا، وطفلة ودعها في الصباح ذاهباً إلى عمله على وعد لها بالحلوى، وبألا يتأخر، فما عاد ولا جاء بالحلوى.
وستبكيه امرأة وابنتها رآهما يوماً في بهو المحكمة، تستر جسديهما ثياب رثة لا تقي من البرد، فأبى نبله أن يحرجهما وأرسل ثمن الثياب مع آذن المحكمة. وستبكيه أمه التي شحّ بصرها والتي كانت تتلمس وجهه حين ينهال على يديها بالتقبيل، وباتت الآن تقبّل يديها آخر عهد لهما به.
الآن ..وقد أسهبَ بيَ الحبر أؤجل حصتي من البكاء، وأستبطئُ الباكين قليلاً كي أتحدث عنه، فحبل الدمع السوري طويل..إنه مستشار محكمة الجنايات العسكرية في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي القاضي ملحم علي ملحم المولود عام 1973 في قرية (البل) التابعة لريف حلب.
في مدرسة القرية الوحيدة أنهى دراسته الابتدائية ثم انتقل إلى مدينة حلب متابعاً تحصيله الدراسي حتى نيله الإجازة في الحقوق من جامعتها عام 1994، وفي السعودية حين شغل إدارة فرع دار (ابن الجوزي) للنشر في مدينة الرياض، انكب على المطالعة في العلوم الشرعية والقانونية فحاز ذخيرة علمية وفكرية واسعتين، ولدى عودته إلى الوطن عام 2002 عمل كمراقب دخل في مديرية مالية حلب حتى اندلاع الحراك الشعبي السوري ربيع عام 2011 لينشق عن وظيفته، ويقصد المناطق المحررة، وهناك انضم إلى نقابة المحامين الأحرار في حلب عام 2012، وانخرط في المؤسسات القضائية الثورية التي فرضها واقع الحال فعُين قاضيا عام في (المحكمة الداخلية) للجبهة الإسلامية (لواء التوحيد)، وذلك بعد تطهير ريف حلب من تنظيم "داعش"، وإثر انتهاء عملية "درع الفرات" عام 2016 وانتصار الجيش الوطني السوري بدعم من الجيش التركي وما تلاها من مرحلة بناء المؤسسات القضائية وغيرها، تم تعيينه كقاض فرد عسكري في مدينة "أعزاز" منذ 3/9/2018 ، ثم تمت ترقيته إلى درجة مستشار في محكمة الجنايات العسكرية في "أعزاز" منذ تاريخ 20/1/2019 وبقي في موقعه حتى تاريخ اغتياله بتاريخ 19/10/2020 ليستشهد في اليوم التالي متأثراً بجراحه بعبوة مفخخة، زرعها جبناء مجهولو الشخصية، معلومو الهوية أعداء العدالة والحرية والاستقرار، كما جاء في بيانات الاستنكار والتنديد الشديدين من قبل الأوساط والمؤسسات الثورية كالإئتلاف الوطني السوري، والجيش الوطني الثوري السوري ونقابة المحامين الأحرار في سورية وإدارة القضاء الحر.
ولكن وبالرغم من ذلك تساءل الكثيرون: أما كان يجدر بالجهة صاحبة السيطرة العسكرية والأمنية في "أعزاز" أن تولي شخصية هامة بهذا الموقع الحماية التي تستحق؟ أم أن طفلته التي مازالت تنتظر عودته لا تستحق حضن أبيها وقطعة حلوى؟!.
القاضي ملحم ملحم: شهيد العدالة
سليمان النحيلي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية