مهرجان دمشق السينمائى.. نظرية الوجبة المشبعة .. كمال رمزي

كأن مهرجان دمشق استجاب، على طريقته، لذلك التحدى الذى فرضته تلك المهرجانات الوليدة، فى بلداننا العربية، خاصة مهرجانات الخليج، الأوفر مالا، التى تتلألأ بنجمات ونجوم عالميين، يتم استحضارهم، كى يتبختروا أمام فلاشات كاميرات المصورين، فوق سجاجيد حمراء، نظير أجور فى حدود المائة ألف دولار، لكل ضيف.

طبعا، سوريا لا تريد ولا تستطيع مجاراة أسلوب استئجار النجوم، وبالتالى دخل مهرجان دمشق مضمار التنافس معتمدا على ثلاث ركائز قوية، تتوافق مع «إيديولوجيته» من ناحية، وإمكانياته من ناحية ثانية.

المأخذ المتكرر على العديد من مهرجاناتنا العربية، يتجسد فى ضآلة شأن اللغة العربية، إذا قيست باللغتين الفرنسية والإنجليزية، فمهرجان قرطاج العريق، على سبيل المثال، لايزال واقعا فى قبضة اللغة الفرنسية، حتى أن معظم الأفلام الأفريقية، الناطقة بلغة شعوبها، تعرض مترجمة إلى اللغة الفرنسية، وإذا كان مهرجان مراكش المغربى، يشترط ترجمة الأفلام إلى اللغة العربية، فإن متابعات المهرجان، ونشرته، مقصورة على اللغة الفرنسية، ولا تنس أن شركة علاقات فى باريس، تشارك بقوة فى تنظيمه.

وسواء فى مهرجانات «دبى» أو «أبوظبى» أو «الدوحة» تزيح اللغة الإنجليزية، بإصرار ناعم، اللغة العربية، من أمامها، وتركنها جانبا، وليس غائبا عن الذاكرة، صورة الخواجه «سكارليت» المدير التنفيذى لمهرجان أبوظبى، وهو يختتم المهرجان بمرح وفرح، باللغة الانجليزية، أعلم أن تلك المهرجانات تضيق ذرعا بهذه الملاحظة، ولكن الحق أحق بأن يقال. الأمر يختلف تماما بالنسبة لمهرجان دمشق، بلغته العربية الناصعة، التى تعتبرها سوريا جزءا جوهريا من توجهها العربى.

واجهت دمشق غياب النجوم الأجانب، المأجورين، بعدد لا يستهان به، من النجوم المصريين، من ذوى العيار الثقيل، بالتأكيد من دون عطايا مالية، من بينهم يسرا، محمود عبدالعزيز، إلهام شاهين، حسين فهمى، محمود حميدة، سمية الخشاب، والقائمة تطول، ولا بأس من أن يعلن اسم هانى شاكر، المهم أن النجوم المصريين، وغيرهم من العرب، أضفوا على المهرجان طابعا مبهجا.

من ناحية ثانية، كان لحضور المخرج أمير كوستاريستا، بأفلامه، سببا فى إضفاء المزيد من الجدية الثقافية على المهرجان.

راهنت دمشق على الثقافة، وفيما يشبه «الوجبة المشبعة»، تعمد محمد الأحمد، الناقد أصلا، أن يعرض 220 فيلما طويلا، من الكلاسيكيات والإبداعات الحديثة، فثمة 15 فيلما من إخراج فيللينى، و10 حققها الأمريكى المهم ستانلى كويرك، و11 من إبداعات الألمانى فريتز لانج، و7 للروسى الموهوب بقوة نيكيتا ميخالكوف، و15 لصاحب الرؤية النقدية العميقة، الأمريكى سيدنى بولاك، فضلا عن أفلام أخرى لنجوم من طراز شارلى شابلن ومارلين مونرو وآلان ديلون، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

إلى جانب عروض الأفلام، صدر 24 كتابا، بعضها بأقلام نقاد عرب، وبقيتها مترجمة، تشكل فيما بينها ثروة ثقافية باقية ودائمة، تصب فى طاحونة الثقافة الجادة، الرفيعة، وتمنح مهرجان دمشق قيمة لا تتوافر عند غيره من المهرجانات.

المسابقة.. والنتائج
شارك فى التسابق 20 فيلما روائيا طويلا، و50 فيلما فى مجال الأفلام القصيرة. الأفلام من مختلف دول العالم، ومن بينها مصر التى شاركت بفيلمى «واحد صفر» لكاملة أبوذكرى، و«المسافر» لأحمد ماهر. وسوريا، بفيلمى «بوابة الجنة» لماهر كدو، و«مرة أخرى» لجود سعيد. والمغرب بفيلم «كازانجرا» لنور الدين الخمارى، ومن الجزائر «مصطفى بن بولعيد» لأحمد راشدى، ومن تونس «ثلاثون» للفاضل الجزيرى.

تكونت لجنةالتحكيم من عشرة أشخاص بالإضافة لرئيس اللجنة، المخرج الفرنسى ريجى فارنيه، وجاءت النتائج كالتالى:
ـ جائزة أفضل ممثل، اقتسمت بين الممثلين الروسيين «فلاديمير إيلين» و«اليكسى فيرتكوف» عن دورهما فى فيلم «العنبر رقم 6» الذى أخرجه كارين شاخنازوف.

ـ جائزة أفضل ممثلة، ذهبت للإيطالية جيوفانا ميزوجورنو، عن دورها فى فيلم «الانتصار» من إخراج ماركو بيلوتشيو.

ـ جائزة مصطفى العقاد لأفضل إخراج، حصل عليها البرازيلى ماركو بيتشس، عن فيلمه «مراقبو الطيور».
ـ جائزة لجنة التحكيم الخاصة، جاءت من نصيب الفيلم السورى «مرة أخرى» لجود سعيد.

ـ الجائزة البرونزية، نالها الفيلم المغربى «كازانجرا» أو «الدار السوداء» لنور الدين الخمارى.

ـ الجائزة الفضية، ربحها الفيلم الإيرانى «عشرون» من إخراج عبد الرازق كاهانى.

ـ الجائزة الذهبية، منحت للفيلم الكورى «الجبل الأجرد» الذى حققه سو يونج كيم.

تعليق.. وليس رفضًا
نقد نتائج المسابقات لا يعنى رفضها أو التشكيك فى نزاهة أعضائها، وربما كان من الصعب أن ترضى النتائج كل المتابعين، فالمسألة، فى النهاية، ترتبط بمحصلة ذوق لجنة التحكيم، الأمر الذى من المحتمل أن يكون مغايرا، إذا تغير أعضاء اللجنة. هنا، بعيدا عن مزاجه الشخصى، جاءت الجوائز متسقة مع بعضها بعضا، تشير بوضوح إلى التعاطف مع الفرد الذى يواجه العالم وحيدا، الإنسان المدفوع دفعا نحو الهزيمة، وهذا ما تؤكده جوائز التمثيل، سواء بالنسبة للرجال أو النساء. كيف؟

قصة «عنبر 6» الشاعرية الحزينة، التى كتبها تشيكوف «1860 ـ 1904»، تحولت إلى أعمال سينمائية، ومسرحية، ومسلسلات تليفزيونية، مع تغييرات متفاوتة، حسب رؤية كل معد. لكن هذه المرة، يباغتنا الروسى، كارين شاخنازوف، المخرج وكاتب السيناريو بأسلوب يحافظ على جوهر القصة، ويتناقض تماما مع شاعرية تشيكوف الحزينة. الفيلم شديد القسوة، مفعم بنوع من الوحشية..

عن قصد، نقل الأحداث إلى العام «2007»، أى أنه يتحدث عن الحاضر، ولا يحتاج المرء إلى جهد كبير كى يدرك أنه لا يتعرض لمستشفى أمراض عقلية معزولة، ولكن يقدم تصوراته عن مجتمعه.

فى البداية، قبل ظهور العناوين، يتحدث بعض النزلاء إلى كاميرا محمولة، مهزوزة، فتبدو المشاهد كما لو أنها وثائقية، ولاحقا، من خلال شهادات آخرين، نتابع حالة الدكتور «راجين»، الطبيب الرقيق، المتفهم للمرضى، وهى تتدهور ـ حسب زعمهم ـ بسبب علاقته الأثيرة بالنزيل «غروموف»، المتأمل، إلى أن يصبح «راجين» نفسه، من المرضى.

الأداء التمثيلى على قدر كبير من البراعة، بلا مغالاة أو افتعال، طبيعى تماما، وشديد الخصوصية فى ذات الوقت، فلا هياج ولا نوبات هستيريا ولا عيون زائغة، فقط شعور مؤلم بالوحدة، وحين يحاول الطبيب مجرد السير فى حديقة المستشفى، يواجه بقسوة رجلا يجسد قوة قمع مهولة، يجمع عدة مهن فى آن واحد: ممرض، تمرجى، مشرف، حارس أو «رجل أمن»، أو ربما رجل سلطة.

جدير بالذكر أن النجم الإيطالى مارشيللو ماستيريانى كان مرشحا لدور الطبيب، لكن المخرج أصر على إسناده لفلاديمير إيلين، الذى جاء أداؤه مع أليكسى فيرتكوف، بمذاق الحقيقة.
بطلة «الانتصار»، إيدا دالسير، بأداء الفائزة بجائزة أفضل ممثلة، جيوفانا ميروجوريو، يزج بها أيضا فى مصحة للأمراض العقلية. الفيلم لا يعتمد على نص أدبى كما الحال فى «عنبر 6»، ولكن يستند على القصة الحقيقية لـ«إيدا»، الزوجة الأولى للزعيم الفاشى موسولينى، التى وقفت إلى جانبه، منحته ثروتها وذهبها ليصدر جريدته، وبعد زواجها منه، وحملها، بدأ صعوده السريع إلى قمة السلطة، وشرع فى التنكر لها، وإنكار أبوته لوليده، ولأنها من النوع المقاتل، رفعت ضده قضايا فى المحاكم ولكن وثيقة زواجها تختفى، وعلى الرغم من الحصار المضروب حولها، تتمسك بحقوقها، وبالضرورة يشتد بطش مخالب السلطة وجبروتها ونذالتها، إلى أن تجد نفسها وسط المجانين.

جيوفانا، بإدارة المخرج ماركو بيلوتشيو، قدمت معرضا هائلا لعشرات الانفعالات، بدءا من الأمل ونشوة الحب وسعادة العطاء، إلى الضيق والغضب والكراهية، إلى الإحساس بالوحدة والعجز، إنه دور وأداء يتوافق مع مزاج لجنة التحكيم.

أفلام.. متواضعة
فيلمان، رأت فيهما اللجنة ما لم أجده: الفيلم الإيرانى «عشرون» لعبدالرازق كاهانى، الحائز على الجائزة الفضية. والفيلم السورى «مرة أخرى» لجود سعيد، الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

«عشرون»، لا يعتمد على أحداث، فهو مجموعة من المواقف المتوالية، تدور داخل مطعم يقرر صاحبه إغلاقه بسبب حالته النفسية السيئة عقب وفاة إنسان قريب لقلبه. يمهل العاملين فى المطعم «عشرون» يوما للبحث عن وظائف فى أماكن أخرى، ولأن أحدهم مشلول اليد، وآخر لا يجيد إلا تنظيف المكتب، وإحدى النساء لديها طفل صغير، حائرة به، وأخرى تدرك ندرة فرص العمل، لذا فإن الجميع يبذلون أقصى طاقاتهم فى إرضاء صاحب المطعم الحزين، لعله يغير قراره.. وفعلا، يرفض بيعه، ويستمر العمل بنفس الطاقم.

الفيلم يتضمن فكرة إنسانية، تتعلق بالتضامن والتآخى، ولكن مشاكله الفنية كثيرة، فالممثلات تتطابق أشكالهن إلى حد مربك، وحفلات الأفراح والمياتم التى تقام داخل المطعم تتشابه مع بعضها تماما، الأمر الذى يبعث الملل، وانفعالات الشخصيات ثابتة، لا تتبدل ولا تتطور، والكاميرا ترصد ما يدور أمامها على نحو تليفزيونى.. «عشرون» فيلم باهت، بارد، مع احترامى لاختيار لجنة التحكيم.

أما «مرة أخرى» فإنى أعترف بعدم فهمى له، إلا بعد أن شرحه وفسره لى أصدقاء سوريون، فقالوا لى إنه يتعرض لقضية شائكة تتعلق بالعلاقة المعقدة بين سوريا ولبنان، فثمة جسر معلق بالحبال المتآكلة، أرضيته من خشب مهترئ، على الحبيبين، السورى واللبنانية أن يعبراه معا، بحذر شديد. قبل مشهد النهاية هذا، يطالعنا ضابط سورى قوى الشكيمة، كان موجودا فى لبنان خلال فترتين عصيبتين ـ لم أتبينهما إلا بعد توضيح ـ اغتيلت زوجته برصاص قناص، أثناء سفرها بسيارة مع ابنها الذى يكبر، يصبح شابا، يعمل فى بنك تديره شابة لبنانية، يحبها بعد خصومة، ويكتظ الفيلم بأحداث ومواقف ومعلومات تأتى عن طريق «الإنترنت»، وربما يهدف الفيلم لتأكيد التآخى السورى اللبنانى، لكنه جاء مرتبكا من ناحية السرد، مبهما فى الكثير من أجزائه، وبالتالى يحتاج إما لمن يشرحه أو لمشاهدته «مرة أخرى».

الشروق
(84)    هل أعجبتك المقالة (83)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي