في بداية الخمسينيات تنبه المجتمع الدولي لخطورة انتشار السلاح النووي،إذ كانت بعض الدول قد توصلت إلى تصنيعه، نتيجة استكشاف وسيلة تخصيب معدن مشع هو اليورانيوم. وتداركاً لتداعيات انتشار هذا السلاح الرهيب الذي كشف عن مدى فتكه وخطورته بعد رمي القنبلة النووية على هيروشيما في اليابان، عمد مجلس الأمن إلى إرساء معاهدة الحد من عملية الانتشار النووي، تم التوقيع عليها لاحقاً من قبل غالبية الدول المنتجة للطاقة النووية، ووضعت حيز التنفيذ في 5 مارس (آذار) 1970 على أن تشرف على حسن تطبيقها الوكالة الدولية للطاقة النووية. وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة الدول المنتجة للقنبلة النووية سنة(1940)، تلتها روسيا سنة(1949)، ومن بعدها فرنسا سنة (1960)، والصين سنة (1964)، ولكنها جميعها وقعت على معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي لاحقاً. أما كوريا الشمالية فلقد وقعت ثم انسحبت. والدول التي رفضت التوقيع كانت الهند وإسرائيل ومن بعدهما الباكستان.
ولكن خطورة الانتشار النووي عبر العالم كان محدوداً خلال هذه العقود، وامتلاك السلاح النووي من قبل الدول الغير موقعة على المعاهدة كان محرماً وممنوعاً ،ليس فقط من قبل المجتمع الدولي والمؤسسات الرقابية التابعة له وذات الصلة، بل وأحياناً عن طريق تدخل مباشر لأحد القطبين الرئيسين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي،اللذين كانا يتقاسما النفوذ عبر العالم. ولم يكن تدخل إحدى هاتين الدولتين القطبين للجم الفلتان النووي، في حال حصوله، بدافع إنساني بقدر ما كان ينطلق من خلفية الخوف المتبادل، إو ما كان يسمى "بتوازن الرعب"، الذي قام بين الجبارين بعد كارثة هيروشيما، وأرسى نوعاً من استتباب الردع المتبادل، والذي دام على مدى خمسة عقود، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية . ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي، وانحسار دور روسيا على نطاق حدودها الجغرافية، نسف التوازن القائم، وفتح المجال أمام ظهور خطر الانفلات النووي في الدول التي كانت تحتمي بالترسانة الروسية. والواقع اليوم بات ينبي بنمو وازدياد نسبة أخطار متجددة في ظل العجز الدولي لصد أو وضع حد نهائي للانتشار النووي، والذي بتنا نشهده اليوم على مستوى الشرق الأوسط
وثمة من يحمل إيران اليوم مسؤولية الانتشار النووي المتزايد في الشرق الأوسط أسوة بالمسؤولية الغير مباشرة والتي يحملها البعض الآخر للوكالة الدولية للطاقة النووية، الشبه عاجزة أمام نسبة الانتشار النووي الحاصل، والغير قادرة على ضبطها عن طريق فرض سلطتها بشكل فاعل ونافذ. ناهيك عن تعرضها الدائم للاتهام القائل بأنها تكيل بمكيالين، إن بسبب تراخيها وتراجعها حيال المراوغة الإيرانية، وإن بسبب تغييبها الكامل لموضوع الترسانة النووية الإسرائيلية. ولكن لا بد من كلمة حق تقال فالتسليم بأن مهمة التحقق من البرامج النووية اليوم غدت جداً شاقة، وعاصية ومحفوفة بالمطبات والعوائق. تأتي في مقدمها السرية التي تغلف بها الدول برامجها النووية من جهة، ويليها غياب الحماس عند الدول المستهدفة بالاستكشاف،لاعتبارات خاصة تتعلق بنظرتها للوكالة الدولية للطاقة والتي لا تراها بعيدة كثيرا عن التأثر بهيمنة المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة..
وإذا جاز القول بالتالي بأن برنامج الحد من انتشار السلاح النووي والذي أقر عام 1950 بات اليوم بحكم المأزوم بسبب انهيار القطب الآخر في معادلة "توازن الرعب"، فعجز البرنامج قد يكون متأتياً من عدم قدرته من التأقلم مع الأوضاع الجيوسياسية المستجدة في الشرق الأوسط بعد عملية 11 أيلول الإرهابية. وهذه التغيرات الجيوسياسية الجديدة التي تلت الغزو الغربي لبلدان شرق أوسطية مثل أفغانستان والعراق، هي نتيجة تصدعات زلزالية ما زالت تتردد تداعياتها على مدى بلدان الشرق الأوسط كافة، خالقة أجواء مؤاتية لنشوء أزمات مستفحلة وشبه دائمة. أزمات مصدرها مناج الخوف والنفور والحذر الذي ساد بين الدول العربية من ناحية ، ومن غياب الثقة بمرجعية الغرب من ناحية أخرى ،ناهيك عن سيطرة أجواء التباعد وفقدان الثقة داخل البلدان، وهي أوضاع مهدت لنشوء أرضية ملائمة لقيام تنظيمات أصولية متشددة أخذت على عاتقها مهمة تحرير العالم الإسلامي من هيمنة الخارج الغربي.
وفيما خص الانتشار النووي المرشح حصوله في الشرق الأوسط ، فثمة من يرده إلى الكم من الفشل المتراكم في مساعي الغرب لحل الملف النووي الإيراني، ويعتبر أنه قد يكون من أهم المسوغات التي دفعت العديد من الدول العربية إلى التفكير باقتناء التكنولوجيا النووية. خاصة وأنه لم يعد خافيا بأن برنامج إيران ليس نوويا بقدر ما هو أيديولوجيا مذهبياً استراتيجياً تمددياً يستهدف العالم العربي أجمع. أما سعي غالبية الدول العربية المحموم لامتلاك الطاقة،فقد لا تفسره الرغبة الفعلية في امتلاك الطاقة البديلة، بقدر ما يفسره البحث التنافسي لامتلاك مصدر قوة جديد، يضاهي ويقف بوجه قوة إيران النووية. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الدول الساعية لامتلاك الطاقة باتت أكثر من أن تحصى بشكل نهائي، فهي كل يوم بتزايد مستمر ،ولقد ورد في هذا الخصوص تقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية والذي يتخذ لندن مقرا له وتحت عنوان "البرامج النووية في الشرق الأوسط في ظل إيران" أنه خلال 11 شهرا أي من فبراير/شباط 2006 حتى يناير/كانون الثاني 2007 أعلنت ما لا يقل عن 13 دولة شرق أوسطية، عن خطط جديدة أو متجددة للمضي في برامج الطاقة النووية المدنية أو استكشافها"
ولكن تطوير برامج نووية في منطقة كانت خالية منها حتى الساعة ليس هو الخطورة الوحيدة، بل الخطورة الأكبر تكمن في اكتساب بعض الدول مثل إيران لتقنيات حديثة تمكن من إدخال وتحميل رؤوس نووية لصواريخ باليستية أو عابرة للقارات وموجهة الكترونياً. وهي تقنيات جد خبيثة لأنها تهدف إلى تمويه استعمال المواد النووية المخصبة والفائقة الخطورة ضمن أسلحة تقليدية. أما الخطورة الثانية فهي في وقوع هذه التقنيات في أيدي تنظيمات أصولية متشددة،وعندها يأتي دور الدول الغربية لتخاف من عمليات نووية تستهدفها على يد هذه التنظيمات. إن الغرب الذي يخاف تفشي الطاقة النووية في الشرق الأوسط يخاف على نفسه أيضاً. لذا نرى هذا التركيز العالمي على مناهضة البرنامج النووي الإيراني. أن الوقت أصبح حاسما والدول الغربية التي ساهمت إلى حد بعيد بانتشار المعرفة النووية على مستوى الشرق الأوسط، عليها أن تعيد حساباتها وتعترف بأن هذا الوحش الذي ُأُطلق له العنان فيما مضى، هو بصدد الارتداد على أصحابه، مثلما ارتد المخلوق "المسخ"على مخترعه كما في الحكاية. لذا قد يكون من واجب كل الضمائر الحية والنيرة عبر العالم، استدراك السيناريو الأسوأ، في الاستشعار قبل فوات الأوان بأنه لا بد من الوقوف بوجه المارد النووي قبل خروجه من القمقم، لأن بعد خروجه يصبح من المستحيل إعادته إلى حجمه الأساسي لإدخاله من جديد إليه.
email :[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية