قصة أثيرت لفترة من الزمن، علت الأصوات مطالبةً بملاحقة القضية وكشف ملابساتها، لكنها مثل كل القضايا المحقة لم يكن عندها محامون أكفاء.
وكعادة المتحمسين يجدون دائماً ما يشغلهم، فيبتعدون شيئاً فشيئاً عن القضايا التي تحمسوا لها، ليغرقوا بقصص وقضايا جديدة، فتنسى المشكلة الأهم، وتختفي الأصوات وتصبح القضية ضمن مصنفات الأرشفة.
إحدى هذه القضايا الأكثر أهمية على الإطلاق كانت قضية الأطفال اللاجئين الذين اختفوا على طريق الهجرة ومن بينهم الكثير من السوريين.
بعضهم كان بصحبة ذويه واختفى، ومنهم من أرسله أهلوه مع مهرب -ثقة- واختفى الطفل فلا هو وصل إلى بلاد اللجوء، ولا عاد إلى حضن الأم التي لن تهدأ نار قلبها ما بقيت حيّة، في القضية الثانية والتي لم أفهمها حتى اللحظة أي أهل هؤلاء من يرسلون طفلهم القاصر وحيداً كي يأتي باللجوء له ولهم، كيف لا يفكر أبٌ أو أمٌ بمخاطر الطريق ويرسل ابنه هكذا بكل بساطة، حالماً بلمّ الشمل، صدقاً لم أفهم ولا أريد أن أفهم دوافع هؤلاء وربما أنانيتهم.
المهم في الموضوع أنه حتى اليوم لا أحد يعرف العدد الحقيقي للأطفال الذي ضاعوا في الطريق من جزر اليونان إلى شمالي أوروبا، منذ بدء التغريبة السورية، فلا شيء مؤكد، ولا إحصائيات دقيقة حول المسألة المنسية، تقول الأرقام بأنهم أكثر من عشرة آلاف طفل سوري اختفوا بعد أن لجؤوا إلى أوروبا، وتورد صحف غربية تقارير بأرقام تتجاوز ضعف العدد المذكور، فإن صدقت هذه الأرقام فالكارثة تجاوزت كل الحدود الإنسانية.
أثناء بحثي عن إحصائيات حديثة لعدد الأطفال المفقودين ومصيرهم في طريق اللجوء، تفاجأت بعدم وجود أي دراسة أو بحث أو إحصائية جديدة على الإطلاق وكأن القضية أغلقت تماماً، فآخر ما نشر من دراسات حول هذا الموضوع من قبل اليونسكو كان في نهاية عام 2016، وكأن هؤلاء مجرد أرقام فائضة، ولا يشكل معرفة مصيرهم أي عبء على ضمير أحد.
وبحسب ذاك التقرير فإن 5 آلاف طفل فقدوا في إيطاليا وحدها.
إذا علمنا أن اللاجئين من سوريا والبالغ عددهم حوالي السبع آلاف سوري، وأن نصفهم من الأطفال لنا أن نتخيل حجم الخطر المحيط بهم في رحلة لجوئهم حتى لو كانوا مع أهلهم فكيف إن كانوا وحدهم.
في عام 2015، دخل 89000 طفل غير مصحوبين بذويهم إلى أوروبا، ومن بينهم اختفى 10000 وفقًا للأرقام التي قدمتها منظمة الأطفال المفقودون في أوروبا، التي تضم 24 منظمة غير حكومية من الاتحاد الأوروبي، وبالبرغم من تدخل اليوروبول في تنبيه الرأي العام وتبني القضية إلا أن الجهود التي بذلت في البحث عنهم كانت متواضعة للغاية في ظل غياب كامل لأي تفاصيل تقود المحققين إلى المسؤولين عن اختفاء الأطفال، وعدم تقديم بلاغات نظامية بأسماء وأعمار الأطفال المختفين خاصة أن معظمهم كان ذووهم ما يزالون في سوريا أونازحون في دول الجوار.
هؤلاء الأطفال بمجرد وصولهم إلى القارة العجوز يختفي كل أثر لهم، خاصة أن عمليات تهريب السوريين من تركيا، أو من ليبيا، أو لبنان إلى أوروبا غير مؤرشفة أصلاً، فلا يمكن لمهرب أن يسجل بيانات الذين يهربهم، أو يثبت على نفسه تهمة التهريب والتي من المفروض أنها ممنوعة قانوناً.
وأعلنت الحكومة الألمانية، اختفاء نحو 2000 لاجئ قاصر غير مصحوبين بذويهم، بينهم سوريون، في بريطانيا اختفى المئات من الأطفال اللاجئين الذين وصلوا إلى الأراضي البريطانية بدون مرافقة شخص بالغ والسلطات البريطانية لا تعرف مكان 360 طفلا منهم.
السويد أعلنت عن فقدان 1000 طفل، فالعديد من اللاجئين الذين قدموا من غير مرافق اختفوا، وليس هناك أي معلومات حولهم.
في اليونان وثقت المنظمات العاملة مع اللاجئين هناك حالات تعرض فيها أطفال لم يتجاوزوا الـ7 سنوات إلى اعتداءات جنسية داخل مراكز اللجوء.
و كشفت وسائل إعلام تركية أيضاً عن تعرض أطفال لاجئين لاعتداءات جنسية، وطالبت المعارضة التركية بفتح تحقيق قضائي في هذه القضية آنذاك.
وفي باقي الدول هناك أعداد مماثلة ولم يعد أحد يثير القضية التي كانت في فترة ما القضية الأكثر سخونة في ملف اللاجئين في أوروبا، ومن أكبر قضايا الضغط في أزمة اللاجئين، فلماذا تصمت اليوم الأصوات التي كانت عالية قبل أربع سنوات؟ ولماذا لا تتحرك منظمات الطفولة العربية والغربية في المطالبة بالبحث عن هؤلاء الأطفال ومصيرهم؟
لا أحد منا يملك جواباً شافياً على هذه الأسئلة، لكننا يجب أن نخشى جدياً أن يكون هؤلاء الأطفال ضحايا مافيات الإتجار بالبشر وهذا المرجح.
وهذه المافيات كلنا يعلم أنها لا تمتلك أدنى درجات الإنسانية، فتعمل في تجارة الأعضاء البشرية وسيكون هؤلاء الأطفال رأس مال مجانيا لهذه التجارة مع إدراك المافيا أن لا أحد سيبحث عنهم.
بعض الأطفال سيتم استخدامهم في عمليات تهريب المخدرات والإتجار بها. ومنهم من سيباع كرقيق جنسي، أو سيستغل في عمل منظم بدعارة الأطفال.
هذا المصير الوحيد الذي لاقاه هؤلاء الأطفال، على مرأى من الجميع وفي ظل صمت الجميع، فماذا علينا أن نفعل اليوم، فقط لنكتشف أين اختفى الأطفال؟ وما هو مصيرهم؟
لعل المعرفة ومحاسبة المجرمين تخفف وطأة الفقد على أهل لم يعد لديهم أي أمل باستعادة فلذات أكبادهم.
الأطفال الذين تسربوا من بين أصابعنا*
*مزن مرشد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية