مالك بوذيبة ...صوت شعري، يذرع وعود الإبداع ليبتر الشك و يتحول تجاه البدء، وليرسو على ثمار الأحلام كي يتماوج وراء الممكن ، وأنت تقرأ تجربته الطازجة تشعر بأن عليك معرفة أصول الشاعر في تذويب الكلمات و الصور و الأحلام و الهواجس في قيثارة الشعر ... دهشة و نقاء رغبة و رهبة، تخدش حياء الورقة بخنجر الأغنيات و تمهد لوشايات السوسن و أحلام العذارى ... ثمة وجع يصارع أحلام القبور في منفى الاغتراب:
وآه... يأيها الشعراء
... وأسطورة الموت شعرا وعشقا
تناديكم نحو عمق القرار
..... مزيدا من الالتحام مع اللاتلاقي
لكي نلتق ي ذات موت شهي...1
يعبر النص البوذيبي الشعري عن شهوة البوح باختيار لغة مشاكسة، تلون المساحات التي تحيط بالرؤية وتوقظ بكارات الأشياء بمباهج التناسل وتمنحه ثيمات يطمئن إليها سياق النص حينذاك تفاجىء المتلقي بدستور التوقع الألق المتوقع من التوتر الدهشة والمفارقة هو ذا ينجز الشاعر بانوراما شعرية هائلة .
منذ العنوان تدخل عتبة العالم ويغويك اللعب مع اللغة وهي تتشظى في ساحات ملأى بطقوس الدهشة تتآلف وتتناقض تتماثل وتتداعى لحظة الجماع الإبداعي بين الوطن الكتابة و الشاعر حينذاك تتمرأى تدريجيا الأنا / الشاعر«على نحو خفي موغل في التستر، لما يرشح به المرئي في اللامرئي »2، لتكشف تفاصيل العالم، و تكسر المعاني في مسرح الأسطورة و تلامس أوجار الذات لحظة المكاشفة الصوفية .
الواقع أن الشاعر يغمرنا - منذ البدء - بسؤال مثير، ينسحب على قصائد الديوان، ليكشف المسكوت ويقتنص شرارة الانصهار بين الماضي و الحاضر ليشتبك المزيج هنا بمجرد استدعاء علامة الترقيم (؟) كشحنة إيحائية معززة بالتحولات الذهنية و التموجات النفسية و ملونة بنبرة إيقاعية مكثفة، إذاك، يجد المتلقي نفسه أمام جسد مغر، دلالة ممتنعة، ورغم ذلك يحاول هرسلتها ويتلذذ معاشرتها لإشباع حيرته وتساؤله.
مالك بوذيبة، شاعر من طينة أخرى، يقاتل موته حين تمزقه الكلمات، يعاند طيف الزمان حين تهمس فتنة البدايات......، يضعنا على انساق مغايرة تلوذ بالدهشة وتسلمنا إلى الحوض في أسئلة الصراعات المصيرية الحاسمة، إنها - الدهشة أمام الحياة- كما يقول بورخس، بل انه الشعر نفسه، ذلك أن الشعر إفراز إنساني يعاني الحبل والصرع والشيزوفيرانيا، انه خلاص للشعراء بتعبير مالك بوذيبة، ضمن هذا السياق، يتضاعف رهان الفراشة على حمل طاقات الغصب، لترصيص الذاكرة والارتواء بماء الحياة.
ثم يكشف نص الشاعر عن ذلكم الملمح الذي يصطحب معه الأنثى/الاستثناء التي تؤثث ذاكرة الكلمات و تعري طقوسها السرية، وتبارك اللقاء في شعاب الحلم، ولا ضير على الشعر من ميلودراما البوح وهي ترمم النص المازوم:
وها أنت ذي أشقر الشاعرات
فماذا إذن
إذن نلتقي
أكون لك خادما أو أميرا
و تكونين لي أجمل السيدات
نصلي معا
أو نموت معا
ثم نحيا3
إن إتكاء النص هنا على مفردة الأنثى هو الذي « يشعل فينا شهوة الكتابة »4، هو دعوة سرمدية، هيأت ذاكرة المتلقي بقبول مدلولات متجذرة تسبح في الفلوات القصية، لقد قالت الأنثى كل ما عندها في حفل الدلالة و هي تخرج مداعبة رغائب الروح، باحثة عن أقاليم الجمال، في حضرة « وردة النار الرشيقة »5 بتعبير عبد الحميد شكيل، هو ذا يرتقي المعنى :
بيني و بينك
ماذا تقول الوشايات عني
تقول بأنك
ماذا ؟
بهن جننت
جنوني أحلامي المشتهاة6
لا مراء في أن نصوص الرجل تحمل في صلبها تفاعلا تركيبيا مع المؤنث الذي يعول عليه في تلقيح برج الكتابة ، لينجب من أحلام الصبى عالما بريئا ، يخصب أفق المعنى، ولاريب أن تقتحم تباريح النص متخيل المتلقي . « الألم وحده هو أم الشعر الحقيقي»7 ، نداءات غواية تدخل مالك بوذيبة تعاريج الوطن بطقوس الإيحاء التي تفرضها مأساوية المشهد و عتمات الفضاء و أوجار الذات ، ليطفح المزيج بسيمياء الألم و تتفجر نسوغه بصراخ إبداعي حملته الفراشة :
من سنين و هم يطلقون الرصاص ،
ومن سنوات و نحن نموت
تعبن من الموت نحن ، ولم يتعب القتلة !
ولم يستريحوا،
ولا ومضة من زمن
لكي نستريح من الهرولة
و نكتب أغنية للوطن
و نموت8
و لاغرو في ذلك ،فالوطن متعب مضرج بدم العذارى بتعبير نصيرة محمدي ،يفجر من الواقع همومه، ضرباته،قهره الناشب،ويصبه في ميسم الكتابة، هي دعوة للانخراط في الواقع المحاصر وسحقها ،لفك طلاسم الالق والذعر.
أما ما يتساءل في النص فهو نداءات خفية، تفضح المسكوت بهدوء حالم تتضافر فيه الحواس والذوات منذ وهلة البياض، لتشكيل اللقطات الشعرية المضيئة التي تتوسل ذاتا شعرية متميزة، وغير خاف ما يرشح به الديوان من لوحات تدغدغ أحشاء النص لتضع عبق النبوءات بديلا.
هذا ما استطاعه مالك بوذيبة، نص عصي، متمنع وممتع لا يسلم مفتاحه السري إلا لمن يروم الامتزاج بعذابات الفراشة.
*للموضوع مراجع
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية