تقول كتب السيرة النبوية إنَّ عبد المطلب عندما حفر زمزم قالت له قريش:
"يا عبد المطلب إن لنا لحقاً فيها معك، إنها لبئر أبينا إسماعيل، فقال: ما هي لكم، لقد خصصت بها دونكم، قالوا: فحاكمنا، فقال: نعم، فقالوا: بيننا وبينك كاهنة بني سعد بن هذيم، وكانت بإشراف الشام.
فركب عبد المطلب في نفر من بني أبيه، وركب من كل بطن من أفناء قريش نفر، وكانت الأرض إذ ذاك مفاوز فيما بين الشام والحجاز، حتى إذا كانوا بمفازة من تلك البلاد، فنى ماء عبد المطلب وأصحابه حتى أيقنوا الهلكة، فاستسقوا القوم، قالوا ما نستطيع أن نسقيكم، وإنا لنخاف مثل الذي أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته بما بقي من قوته، فكلما مات رجل منكم، دفعه أصحابه في حفرته، حتى يكون آخركم يدفعه صاحبه، فضيعة رجل أهون من ضيعة جميعكم، ففعلوا".
وعندما قتل قابيل هابيل: "فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين". الدفن أدنى الكفارات على القتل.
قابيل وهابيل:
الإنسان بنيان الله، ولا يهدمه سوى الله، فإن قتل الإنسان أخاه، فليكرمه بالدفن، وكانت حادثة مقتل فلويد قد كشفت جرائم البيض في أوروبا البيضاء، فرأينا مظاهرات تطيح بتماثيل تجار البشر، وليس بقبورهم، في أمريكا وبريطانيا وبلجيكا التي قتلت عشرة مليون كونغولي، وقتلت صاحبة شعارات: حرية أخوة مساواة، مثلهم في الجزائر، وكانوا غزوا البلاد وأكثروا الفساد، وما زالوا يدعمون جنرالاً فاسداً خائناً مثل حفتر على سبيل المثال، واصطحبوا جماجم المدافعين عن أرضهم ، بعد أن فصلوها عن أجسامهم وجففوها في الشمس وعرضوها في المتاحف مثل لوحات تشكيلية.
ومن أجل أمور كثيرة، ليس أدناها الدفن الكريم، يحرص الإنسان على الدفاع عن أرضه، في العربية تقرن الأرض بالعرض، وبينهما حرف واحد، لأنه منها يأكل وفيها يعيش وفيها يدفن أمه وأبيه، ويواري سوأته، فالأرض هي الأم الأولى، ورأينا إسرائيل، وقد احتلت الأرض تسرق التراب من لبنان، وتورد بلاد المغرب العربي الفاكهة والثمار إلى أوربا، التي تفضّل طعم الثمار المغربية والعربية عموما، فطعم الفاكهة والخضرة واللحم من هذه الأرض، غير طعم ثمارهم.
ليوبولد الثاني وماكرون:
اعتذرت فرنسا من الجزائر على التعذيب، بعد ستين سنة من نضال سيدة فرنسية اسمها جوسيت أودان، مع قصر الإليزيه، تتبعت السيدة مسار قضية قتل زوجها، المناضل الشيوعي الفرنسي موريس أودان الذي اختفى عام 1957 عن سن 25 عاماً. وكان يدرس الرياضيات في الجزائر.
ولم تعتذر عن احتلال الجزائر، وقد كرر ماكرون عندما طولب بالاعتذار، مقطعاً من أغنية ليلى مراد: كان فعل ماضي ماتسيبو في حالو. والماضي احنا مالنا وماله. خلينا في الحاضر وخيالو، قال الرجل: فلننظر إلى المستقبل.
يقول القرآن الكريم: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ"، ولكن يضيع القصاص مع الزمن، وبالكثرة، وأقل الواجب هو الاعتذار وإعادة رفات الشهداء، أو إكرامهم بالدفن بدلاً من العرض في سيرك متحف الإنسانية.
لقد ارتكب الفرنجة ببلاد بالمستعمرات العربية والأفريقية الفظائع، ونهبوا ثرواتهم، وهناك نخبة عربية كنخبة مصر تحتفل "بفتح" نابليون لها، الذي جاء بالمطبعة، ليطبع بها منشوراته، المطبعة اختراع عظيم، لكنه اختراع بوجهين، فقد تطبع بها كتب تنوير ونور، وكتب ظلام وإظلام، وكان النسخ باليد بطيئاً لكن له فضائل أيضاً، فقد نسينا الخط والكتابة.
ولا يزال في حكومة الجزائر بضعة من خير، وإن كانت فرانكفونية الميول، مثلها مثل أنظمتنا التي تحظى برعاية الدول الاستعمارية، التي أطلقت على أسماء الأسد اسم وردة الصحراء وهي التي استقبلت الأسد، وهي التي منحته الشرعية عموماً، ولا زال حفتر يحظى برعاية فرنسا، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن دائماً.
أمس تساءلت وسائل إعلامية عن جمجمة الشهيد سليمان الحلبي، الذي غنمته فرنسا، وأسَرَتْه في المتحف المذكور، ولن يطالب بها نظام الأسد، فهو في شغل عنها بمحور المقاومة، والبطاقة الذكية، ونحن في شغل عنها بآلاف الأحياء الأسرى الذين يموتون يومياً تحت التعذيب بالرغيف.
وقد يقول قائل: إن المتحف الفرنسي، أكرم من حكوماتنا التي أخفت عشرات الآلاف من جثث الشهداء في بطون الصحاري أو بنت عليها ناطحات السحاب حتى لا نصل إليها، وأخفت معالم الجريمة، منها فندق أفاميا في حماة، فنحن بين هذا الأنواع من المعارض والمتاحف:
- معارض حدائق الإنسان التي تشبه حدائق الحيوان، وقد انقرضت مثل السيرك الذي انقرض أيضاً
- متاحف الجماجم أو متحف الإنسانية، حيث تعرض جماجم الشهداء الكرام الذين دافعوا عن أرضهم مثل لوحات دافنشي ودالي، لكن من غير بيع، فهي بضاعة للعرض فقط.
- متحف صور قيصر الذي يعرض في معارض غربية، فيتصدق علينا الأوربي ببعض العطف، من غير صدقات عسكرية، أو فزعات، وهي الإغاثة والنجدة، فهو يفزع فقط للرد على داعش.
- متاحف جماجم بشرية حية، نراها في صيغة نزيف عقول، نزحت وهربت من الدفن تحت العمارات الحديثة، حيث تعمل هذه العقول في المؤسسات الغربية، أو عقول تهب نفسها لخدمة الغرب مثل جمجمة بن زايد، وجمجمة السيسي، وجمجمة الأسد.
- العقول التي لا تهرب، تقتل، ويمكن ذكر أسماء مئات العلماء الذين اغتيلوا، لأنهم رفضوا السيرك الغربي، وأبوا إلا خدمة بلادهم مثل سمير نجيب، ورمال حسن رمال، ونبيل فليفل، ومصطفى مشرفة، وسميرة موسى، وجمال حمدان، أما العلماء السوريون فقد تكفل النظام السوري بهم.
الأنوار والجماجم: سيرك الإنسانية!*
*أحمد عمر - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية