درج الخطاب السياسي اللبناني على المصطلحات المملة التالية: "نظراً لدقة المرحلة التي يمر بها البلد، ونظراً لتشابك العوامل الداخلية والاقليمية، ولخطورة ما يجرى حولنا .... علينا أن نتحد لنواجه سوياً، وأن نتصرف كجسم واحد ونتكاتف ونتوافق وأن نؤلف كل مرة ما يسمى ب"حكومة وحدة وطنية".
في الحقيقة هذه التعابير المستهلكة من قبل زعماء الطوائف في لبنان وتوابعهم، أصبحت فارغة من معناها، ولم تعد تقنع أحداً. فبعد أن ذهبت نتائج الانتخابات أدراج الرياح، وبعد أن استفحل التحدي والنفور، وتحول الخروج عن أصول الكتاب التقليدي، وعن ما تلاه من دساتير وتسويات منها الآتي من الطائف ومنها من الدوحة، أمراً مألوفاً وعادياً، لم يعد المواطن يصدق شعارات من نوع "ألوحدة الوطنية" أو "التكاتف والتضامن من أجل مصلحة هذا البلد...".
وجل ما بات يشغل باله حاليا هو التمكن من إرسال أولاده إلى المدرسة، في أجواء أمنية مستتبة بعيدا عن التوترات واحتمال التفجيرات الكارثية. وأقصى طموحه يكمن ليس في ولادة حكومة اتحاد وطني، بل في التمكن من تحصيل الكفوة المادية المعقولة، لتغطية حاجات العيش الكريم لعائلته،وتأمين الطبابة عند الحاجة، وأيضاً التمكن من السير على الطرقات من دون خطر الغرق في شلالات طوفان الأمطار. أما المواقف الطائفية المتشجنة والتي دفع إليها دفعاً في مرحلة الانتخابات، فلم تعد تعنيه البتة كونه لم يؤخذ برايه عند نهايتها، وغدى على يقين بأنه لن يؤخذ برايه في أي مراحل أخرى لاحقة.
وبما أن التردي الحاصل على مستوى المناخ السياسي العام، لا بد وأن يرتد بطريقة أو بأخرى على حياة المواطن العادية، وأن يتحمل المكلف في معيشته الخاصة تداعيات المشاحنات القائمة على قدم وساق، في موضوع تناتش وتقاسم الحصص والمراكز والوزارات، لا يمكنه بالتالي الاسترخاء وإشاحة النظر عما يجري في الدوائر السياسية العليا، .لأن تفجر الاوضاع على مستوى تقاسم الحصص بين الزعماء المتنفذين، قد ينعكس حروباً أهلية في الشارع المتشنج أصلاً بسبب إصطفافاته الطائفية والمذهبية.والواقع الذي بات يفرض نفسه اليوم يفيد بأن أجواء المناكفات وصلت إلى ذروتها ، لعدة أسباب قد يأتي في مقدمها التأثيرات الخارجية، حيث تشكل الساحة اللبنانية الداخلية امتداداً لما يجري على صعيد المنطقة. وبما أن الواقع يفيد أيضاً بأن الكيان اللبناني ما زال حتى الساعة قائماً على الأضداد وغير قابلاً بالمستقبل المنظور للتحول إلى أكثر من نموذج يُتغني به. وبما أنه برهن عبر تاريخه على استعداده الدائم للتأثر وللتحول لساحة لتصفية حسابات الآخرين، أكثر منه للتأثير بجواره بشكل فاعل وإيجابي، وبعيدا عن حلم الدور المحوري الخارجي هذا، ألا يحق للبنانيين بأحلام صغيرة على قياسهم لا تتعدى أطر الحياة العادية الآمنة؟ وفي السياق ذاته ألا يصبح التسليم بضرورة تأمين المستلزمات الحياتية الضرورية للمواطنن من أولويات مهمات رجل السياسة؟ ألم يحن الوقت حتى يتذكر السياسي اللبناني بأن المكلف يدفع له أجوراً باهظة ويحرم عياله منها حتى يقوم بخدمة وظيفته، وليس مقامه الشخصي ؟
وفي حال تعذر قيام الدولة المنشودة المتماسكة والقائمة على أسس الوفاق المبدأئي بين مختلف مكونات المجتمع، بل وفي ظل استحالة ذلك،بسبب تواجد طبقة سياسية قامت واستمرت على استغلال الإنقسامات الطائفية، لتمكين تحكمها وتمسكها واستمرار توارثها للسلطة ، لما لا تتحول مجموعة هذه المؤسسات والتي تسمى نفسها دولة إلى شركة مساهمة طائفية. ويبقى الاقرب إلى العقل والواقع هو اجتماع العائلات الروحية والعشائر الطائفية في ظل زعمائها وقادتها ، على أن تسمي كل طائفة ممثليها في السلطة وإدارة البلاد، ولتكف لعبة الانتخابات والتكاذب السياسي عبرها. بمعنى أن عدد ممثلي كل طائفة في المجلس البرلماني يكون بنسبة عدد رعاياها الطائفة المقيمين والمغتربين، على أن يتم التوافق بالنسب ذاتها لوظائف الفئة الأولى، ويتم تشكل مجلس الوزراء على شاكلة مجالس العشائر ،دون الحاجة لكل هذه المسرحيات والتي تسمى استشارات وغيرها من الأطر الديمقراطية المعهودة والتي لم يبقى منها سوى القشور والمظاهر الخارجية.
ولا يقولن أحداً بأن هذا الطرح هو رجعي وقبائلي وغير ديمقراطي! وأنه يشكل احتقارا للانسان المواطن ولحقه بإبداء رأيه،وبأن المواطنين هم مجموعة أفراد وليسوا رعاعاً أو غنماً ... ولكن هل ما هو حاصل حالياً هو أسمى وأرفع مقاماً ومثالي أكثر من ناحية احترام حقوق الانسان، أو أطر وقواعد النظام الديمقراطي الصحيح؟ وهل في تعدي كل من تطال يده السلاح، على صلاحيات الدولة، وفي استكبار كل من يتمكن من تكوين ترسانة أعظم وأهم من ترسانة الدولة، على الدستور، متلطياً في سبيل ذلك وراء تحصيل وحماية حقوق الطائفة، هو تصرف يصنف في قمة الديمقراطية؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية