أربعة وسائل إعلامية فقط، واحدة منها حزبية، تعمل في مناطق شمال سوريا الواقعة تحت إشراف حكومتي المؤقتة والإنقاذ، في حين تعمل بمناطق سيطرة نظام الأسد 60 وسيلة، وفي مناطق الإدارة الذاتية 43 وسيلة، و55 وسيلة تعمل خارج البلاد، وفقاً للدراسة المسحية الأخيرة الصادرة عن المركز السوري للإعلام وحرية التعبير بعنوان "الإعلام السوري، خارطة الوسائل الفاعلة وتقييم الواقع المؤسساتي للناشئ منها بعد العام 2011".
السبب الرئيسي لقلة الوسائل الإعلامية العاملة في شمال سوريا اعتبار المانحين والداعمين منطقة إدلب على أنّها بؤرة للإرهاب، متناسين حضور عشرات الإعلاميين السوريين الذين استطاعوا بإمكانياتهم المحدودة نقل الواقع الذي تعجز عنه مؤسسات كبيرة، ولا يختلف الأمر كثيراً في منطقتي "غصن الزيتون" و"درع الفرات"، بالنسبة للمانحين، كونها تحت إشراف الضامن التركي، وهذا مؤشر خطير يمس حرية الإعلام والتعبير بحسب ما يراه الإعلامي "تركي سويد".
يتفق جميع الإعلاميين الذين تكلمت معهم "زمان الوصل" لغرض إجراء هذه المادة، أنّ منغصات العمل الإعلامي في شمال سوريا تتجاوز خطر الموت أو الإصابة في خطوط الاشتباك، وتصل إلى السجن والتعذيب في حال أشار الإعلامي لتجاوزات تقوم بها السلطات القائمة أو تسليط الأضواء على المشكلات الحقيقية التي تمس واقع الناس الأمني والأمن الغذائي والصحي والاقتصادي، ويقتصر العمل الإعلامي وفقاً لرؤية السلطات على التحدث بالسياسات الدولية وتغطية المناسبات الشبه رسمية وبعض العمليات العسكرية.
كما أنّ لانعدام التصريحات الرسمية أو تقديم معلومات مغلوطة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية أو معلومات مضللة في جوانب التجاوزات يُضاعف الأعباء لدى الإعلاميين لا سيّما وأنّهم غير قادرين على إقناع المعنيين وغيرهم كـ"مصادر" بضرورة الكشف عن أنفسهم.
ولمخاوف فقدان المعدات حكايةً أخرى، فهي أكثر ما يُرهب الإعلامي أثناء تعرضه لمشكلةٍ ما، كون أكثر الإعلاميين يعملون بنظام "فري لانس" بلا عقود ولا يستطيعون تعويض المعدات بشكل سريع، كما أنّ بعض المؤسسات التي يتعاونون معها تطلب منهم واجبات بحقوق متدنية دون أن تضمن سلامتهم، ولا يتجرأ الإعلامي بالتنويه إلى حقوقه أمام المؤسسة المتعاون معها لانعدام الخيارات والبدائل وخوفاً من التخلي عنه بذرائع عديدة كاختلاف الأولويات وكثرة الإعلاميين.
*حضور المرأة
الإعلاميتان "سلوى عبد الرحمن" و"ميسا المحمود" تتفقان بأنّ المرأة أثبتت حضورها في الحقل الإعلامي خلال السنوات الماضية، وتتشاركان ذات المعاناة التي تبدأ من الدوائر الضيقة، إذ دائماً ما تبالغ أسرتهما في طلب الحرص حتى ولو بتعليق على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي لطالما تردهما تهديدات مجهولة المصدر تطالبهما بترك الشأن العام، وتتوسع المعاناة بسبب المجتمع الذي يراقب سلوك الإعلاميات بشكل دقيق، كما تُعانيا من اختلاط الشأن الإغاثي بالإعلام لدى عامة الناس، وتبرر سلوى هذه المعاناة، أنّه بالكاد بعد تسع سنوات ثورة بدأت السلطات المحلية تتقبل حضور الإعلامي، فما بالك بالمجتمع وبحضور الإعلاميات.
ونوهت بأن أكثر الإعلاميين في الداخل السوري لم يحظوا بفرصة التدريب المباشر لرفع السوية وتنمية وتطوير القدرات والمهارات، وإن تمّ ذلك لدى البعض فيكون افتراضياً.
حصول سلوى على بطاقة تصريح صادرة عن حكومة الإنقاذ في إدلب يسّر لها بعض الأنشطة وأخرجها بشكل نسبي من دائرة الخلاف مع السلطات القائمة، وتُفضل انتقال أكثر الإعلاميين من تسليط الضوء على قضايا إنسانية منفردة إلى إنتاج محتوى يلامس معاناة المجتمع بشكل عام.
إلّا أنّ "ميسا" التي تعيش في مدينة "عفرين" لم يسعفها الحظ بالحصول على تصريح، إذ إنّ المؤسسات هناك غير مخولة بمنحه، ويتطلب الحصول عليه إذن "الوالي التركي" وبشروط تعجيزية.
منذ مزاولة نشاطها في الحقل الإعلامي عام 2011 وتغطيتها لأحداث الثورة السورية وانتهاكات نظام الأسد تعرضت "ميسا" لانتهاكات عديدة وصلت حد الضرب والتشهير، وما زالت تمارس مهنتها وتؤدي رسالتها معتبرةً ذلك تحدياً لظروف الواقع وواجباً عليها لنقل الحقيقة دون زيادة أو نقصان.
أكثر ما يحز في نفسها قلّة عدد الإعلاميات في منطقة "عفرين" التي تعيش تضييقاً أمنياً، وينشط فيها العديد من الفصائل والحواجز، وتنوه بأنّها دائماً تحمل الكاميرا معها، لكنّها لا تتجرأ على القيام بالتصوير تخوفاً من تجمع العناصر حولها والفوضى التي يخلفونها، ومن الصعب جداً تغطية أي حدث حتّى ولو كان عملاً إرهابياً كالتفجير الأخير الذي ضرب المدينة منتصف الشهر الماضي نيسان/أبريل، مُشيرةً إلى أنّ ذرائع عناصر الفصائل غير مقبولة، فمن المستحيل أن تنتظر ميليشيا "قسد" ما يصوره الإعلاميين لتحديد مواقع أمنية قد تستهدفها في المستقبل.
حول التصريحات الرسمية المعدومة تقول إنّها لا تعلم إن كان السادة المعنيون يُفضلون الإعلام الأجنبي على المحلي، والواضح أنّهم لا يعترفون بالإعلاميين داخل سوريا باستثناء من يصب إنتاجه في صالحهم.
معلومات "زمان الوصل" تُفيد بأنّ الشرطة في منطقة "عفرين" دائماً ما تُطالب الإعلاميين بتوحيد صفوفهم والتجمع في كيان واحد يمثلهم جميعاً لمساعدتهم في تسهيل أمورهم.
*تضييق أقل وطأة
إلى مدينتي "إعزاز" و"الباب" حيث أكد الإعلامي مالك أبو عبيدة أنّ التضييق فيهما أخف وطأةً من باقي المناطق، يُرجح ذلك بحسب ما يرى لاعتراف السلطات بالبطاقة الصحفية الصادرة عن اتحاد إعلاميي سوريا، إضافةً إلى أنّ كافة كوادر المؤسسات من أبناء المناطق، وطبيعة الشعب مناصر للإعلاميين وناشطي المجتمع المدني.
تعرض "مالك" في شباط/فبراير الماضي لمحاولة خطف من قبل مجموعة مسلحة مجهولة جراء إنتاجه تحقيق استقصائي يتكلم فيه عن التهريب بين مناطق المعارضة السورية والإدارة الذاتية، وكان قد ذكر في تقريره فصيلاً عسكرياً يتبع للجيش الوطني، ولازال التحقيق بملابسات الأمر جارياً من قبل الشرطة المدنية.
ويُضيف مالك، في حال تعرّض الإعلامي لمضايقات أو اعتقال ينتفض أكثر الناس لأجله كما حدث في تجارب سابقة أُستخدم فيها الإيحاء بتنظيم عصيان مدني ومظاهرات شعبية، الأمر الذي يدفع السلطات المحلية بمجاراة الإعلاميين والتعاون معهم.
منذ الشهور الأولى للثورة السورية تشكلت العديد من الكيانات التي عرفت نفسها معنيةً بالدفاع عن العاملين في الحقل الإعلامي، ويوجد حالياً في شمال سوريا أربعة كيانات تُشابه أنشطة النقابات.
"اسماعيل الرج" مدير اتحاد إعلاميي حلب وريفها قال لـ"زمان الوصل" إنّ الاتحاد يحاول دائماً ردم الفجوة بين السلطات القائمة باختلافها وبين الإعلاميين، مُشيراً إلى أنّ التجاوب يتم في منطقة إدلب أكثر وأسرع من بقية المناطق، ويلقى كوادره هناك احتراماً ملحوظاً، منوهاً بأن الإعلاميين في إدلب باتوا يحظون بتسهيلات جيدة في مزاولة أنشطتهم، لكن المطلوب الضغط على كافة القوى ليكون الإعلام أداةً لردع كافة التجاوزات مهما كان مصدرها.
ويرى رئيس رابطة الإعلاميين للغوطة الشرقية "أبو اليسر براء" أنّ تفاعل القوى المسيطرة ضعيف جدّا ولا يرقى بكيانات تضع نفسها موضع مؤسسات الدولة لا سيّما مع تعدد الجهات النافذة والفصائل العاملة وأصحاب القرار، يتفق معه "إبراهيم الخطيب" عضو العلاقات العامة في "منتدى الإعلاميين السوريين"، ويُضيف بأنّ إجراءات المنتدى تتباين باختلاف ظروف المنطقة المنقسمة بين حكومتي الإنقاذ والمؤقتة، ويتأسف بأنّ السلطات القائمة لا تتفاعل مع معاناة الإعلاميين إلّا حين تُثار من قبل مجموعات موحدة.
بينما ترى "ميسا" أنّ وجود أجسام إعلامية كثيرة يُشابه حالة التشتت التي تعيشها الفصائل والتجمعات السياسية، فالحل يكون بتوحيد هذه الأجسام حتى لا تبقى صورية بنظر السلطات، ومن المفترض أن يكون هذا سهلاً لطالما جميعها تُعرّف نفسها بمناصرة الإعلاميين، حينها تكون قادرة على انتقاد الأخطاء مهما كان مصدرها حتّى لو الضامن ذاته، وفاعلةً في تشكيل خطوات مناصرة استباقية قبل أن يتعرض الإعلامي للإيذاء، وما يُثير دهشتها أكثر، تراخي الإعلاميين أمام سياسات تكميم الأفواه وهم ذاتهم انتفضوا بوجه نظام الأسد وأجهزته الأمنية في ظل قوته وجبروته.
آلام وآمال الواقع الإعلامي في شمال سوريا

فادي شباط - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية