يعبر المثل القائل: "إجا يكحِّلها عَمَاها" عن سعي صحفيين وإعلاميين ونشطاء عاملين في وسائل إعلام معارضة لإلصاق اسم "شوايا" بأهل الجزيرة السورية والفرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لتغيير الصورة الذهنية المسبقة عن هذا المصطلح وليس عن السكان عبر اختلاق قصص وروايات تحمله معاني نبيلة لا أصل لها على اعتبار أنه لغويا يعني "السيّئ من كل شيء".
مع دخول الثورة السورية عامها العاشر ظهر جليا اعتماد وسائل إعلام لدى المعارضة والثورة على الناشطين، وهذا جعل كتابها يسلمون بصحة ما يروجه نشطاء مواقع التواصل على أنه حقيقة مطلقة دون أي تحمل للمسؤولية الاجتماعية، فيخرج مذيعون وضيوف يتكلمون عن سبب "الصورة الذهنية السلبية عن الشوايا" وكأنهم تأكدوا من أن أبناء منطقة جغرافية من سوريا يحملون هذا الاسم دون أن يعرفوا أنهم يروجون بوقاحة ناتجة عن جهل لخطاب كراهية عمره قرابة قرنين من الزمن.
*أضروا من حيث تقصدوا النفع
ويرى الصحفيون السوريون من خارج الجزيرة أنهم يتعاطفون مع هؤلاء الضعفاء، لكنهم يفسدن الأمر من حيث أرادوا إصلاحه، وذلك لجهلهم بمعنى هذا الكلمة والسياق الذي تقال فيه كـ"شتيمة" أو "مسبة" وعلى أقل تقدير ازدراء البدو وسكان المدن الكبيرة على الفرات للفلاحين أو للبدو الذين تحولو إلى الفلاحة على ضفافه وضفاف روافده في الثلث الأخير من العهد العثماني.
وفي إطار التعاطف مع "دير الزور" خلال حصار تنظيم "الدولة الإسلامية" لها ذكر أحد الكتاب من جنوب سوريا بمقال إنه لم يزر "مدن الشوايا" المهمشة، فجانب الصواب، لأن دير الزور المدينة الأكثر ازدراء للفلاحين بين مدن الفرات، ففيها تتردد على سبيل المزاح والجد كلمات "شاوي مقرفع" و"فلح"...إلخ للسخرية حتى من أقاربهم المنسيين في أعماق الريف البعيد والقريب رغم اشتراكهم في أصول عشائرية واحدة.
ويحاول بعض أبناء المنطقة الشرقية التخلص من قفص الاتهام الذي تبنيه حولهم حروف كلمة مبهمة يطلقها عليهم شعوب وقبائل أخرى ولا يفهمون لها معنى ولا أصلا، فشرعوا من عجزهم بتلفيق المعاني لها من خلال الاستناد على ما ساقته معاجم اللغة العربية من معاني لألفاظ تشبهها مثل "الشاوي" اسم فاعل من فعل "شوى" أو صاحب الشياه الذي لا يربي غيرها، ولو كان الأمر كذلك لشمل البدو وكل إنسان يملك الأغنام أو يرعاها، فأوقعوا الصحفيين الآخرين بورطة.
و"شوايا" وتعني بقايا قليلة من قطعة لحم كبيرة أو شُـوايَةُ وشَوايَةُ وشِوايَةُ: بَقيَّةُ قَوْمٍ أو مالٍ هَلَكَ -أي قوم غير محدد- والرديء من كل شيء، وهذا يدحض معناها الحسن وافتراضات ارتباطها بأهل الفرات رغم أن قواميس اللغة "المعجم الوسيط ، واللغة العربية المعاصر، والرائد، ولسان العرب، والقاموس المحيط" لا تشير إلى أن الكلمة تشير إلى بقايا قوم بمنطقة الرافدين، وما قاله الكتّاب في هذا المجال تحليلات واستنتاجات شخصية لا تعرف نسبة الحقيقة فيها.
أيضا، في مقدمة ابن خلدون، التي يعتبرها البعض دليلا على "شاوية" الفراتيين بقول نصها: "فمن كان معاشة في السائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاة والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة"، وهنا لم يذكر قوم من العرب أبدا وهو دليل على نفي الأمر جملة وتفصيلا، إضافة إلى أن لفظة "الشاوية" بالتحديد تعبر عن شعب في شمال أفريقيا ولا تستخدم في سب سكان منطقة الفرات إنما فقط المذكورة سابقا. والأهم من كل الردود على ادعاءات سوقها كتاب وصحفيون وشعراء، هو أن العرب في شرق البحر الأحمر والمتوسط لا يأخذون أسماء قبائلهم إلّا من آبائهم على عكس ما يحصل للناطقين بالعربية في الجزء الأفريقي من البلاد فهناك إمكانية لأن يحمل الأقارب اسمين مختلفين بناء على ما يربون من الماشية "بقارة يربون البقر وأبالة يربون الجمال وكباشة يربون الأغنام"، كما في السودان وتشاد.
*مساهمات محلية في تكريس المصطلح
وللأسف بعض المقدَمين إعلاميا كمثقفين من المنطقة الشرقية يشاركون في نشر هذا المصطلح الذي يحمل معنى الكراهية والاحتقار من خلال تضمينه في أحاديثهم التلفزيونية وقصائدهم ومقالاتهم، وهم في الغالب برزوا بذات الطريقة التي اشتهر فيها نجوم "غناء الأعراس الهابط" مثل "عمر سليمان" ومقلديه ومنهم "إليسا بطرس" التي غنت "شاوي ماني شاوي" في كبريهات المناطق الداخلية، وسار على خطاها المغرية الكثيرون من ضباط ومثقفين وإعلاميين وشعراء.
وليحمد الله أهل الجزيرة والفرات لأن الاستشهاد بصحة التراكيب والكلمات العربية ومعانيها بالشعر العربي انتهى قبل العصر العباسي، لذا لن يستشهد بشعر هؤلاء على صحة الكلمات التي تصمهم بالهمجية والجهل والدونية بمنطق نسبتهم لمهنة لا يزاولونها بمعظمهم (الغنامة) أو لإحدى طبقات المجتمع البدوي، حتى هذا المقياس الطبقي يضع قسما كبيرا منهم بالدرجة الثالثة (فلاليح أو فلح) على اعتبار شغلهم بالزراعة وترك تربية الأغنام نهائيا.
* "الشاوية" في الجزائر
وجود شعب يحمل اسم "الشاوية" في أعالي جبال الأوراس بالمغرب العربي، والفرد منهم ينعت بـ"الشاوي" لم يعف أهل الفرات من تحمل تبعات بحث الصحفيين السوريين بمعاجم لغوية عمرها يصل إلى ألف عام أي قبل ظهور القبائل الحالية، وقبل الحروب التي أدخلت قبائل جديدة وخلطت القحطاني بالعدناني.
أمّا قول البعض بأن المستشرقين والجواسيس الغربيين لهم دور بظهور هذا المصطلح في أرض الفرات في وقت كانت فيه الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي (1830 - 1962)، يرجحه أن هؤلاء كانوا يبحثون عن القبائل المحافظة على بداوتها لتأليبها على الدولة العثمانية، ولا يستبعد أنهم نقلوا هذا الاسم ليجري على لسان البدو ثم سكان المدن، ودليل ذلك مقارنة "الليدي آن بلنت" بين معاملة بدو الفرات لهم بقلة احترام مقارنة بسكان الجزائر التي زارتها قبل أربع سنوات من زيارة دير الزور عام 1878.
وكان أول من قارن بين طرق عيش قبائل البربر بجبال الأطلس وقبائل الفلاحين جنوب العراق هو "فؤاد إسحاق الخوري" في بحثه "السلطة لدى القبائل العربية"، ونقل عنه "ماكس فون ابنهايم" الألماني في الجزء الثاني من كتاب البدو تصنيفات البدو، أولا البدو الرحل يربون الإبل، ثانيا نصف رحل أو الغنامة أو عرب الدار ويربون الغنم وكان أول من أضاف شرحا قال فيه: "يطلق عليهم الشاوية (الشواوي) بالعراق الجنوبي"، وهم غير الفلح أو الفلاليح الذين صنفهم بالمرتبة الثالثة من أصل سبع طبقات اجتماعية ميزها "الخوري". وكان البدو قبل ذلك يستخدمون ألفاظا من قبيل "أهل الديار" (سكان قرى) و"قوم آني" أي الذين يستبدلون كلمة أنا بـ "آني" العراقية، ولا يستبعد اذا قسنا على ذلك أن يكون مصطلح "شويان وشوايا وشوايانا" ظهرت من باب السخرية على طريقة الكلام خلال مقارنة كلمة "شوين" باللهجة الشمرية القديمة و"شوية وشويونة" بلهجة أهل الفرات وتعني "قليل"، مثلما يحصل حين يسمع سكان حلب ودمشق كلمة "شلونش" للمرأة تنتهي بـ"ج" المعجمة.
* لا للاستقرار
وخلال أحاديث كبار السن في ساعة المصائب والمشكلات تسمع كلمة "الحائط بيناموس" وتعني بالكردية عديم الناموس، أي أنه يربط الرجل بالأرض ويمنعه من الرحيل حين يهان كما كان آباؤه يفعلون، وهو احتقار ذاتي للاستقرار في القرى بعد فترة البدونة، وهذا يفسر انزعاج كبار شمر قبل قرن ونصف من الزمن من خطوة فرحان الجربا للاستقرار بالشرقاط والقبول بلقب "باشا". ويؤكد باحث في الأنساب من مدينة الحسكة أن القبائل في الجزيرة والفرات ذات أصول عدنانية وقحطانية تماما مثل "عنزة" و"شمر" البدوية، وهناك قبائل شهيرة على مرّ التاريخ مثل "طي" قرب "القامشلي" وجدها "حاتم الطائي" و"زبيد" القحطانية إلى جانب قبائل تنتسب لـ"تميم" و"قيس" و"ربيعة" و"أسد" العدنانية، وهذا يثبته قلب القاف جيما والكاف للمؤنث شينا بلهجاتهم.
وختاما، كل ما طرح حول "شاوية أهل الفرات" هي تحليلات وآراء وتخيلات لأشخاص اقتنعوا بوجهة نظر معينة إثباتها أو نفيها يحتاج تحقيقات استقصائية نزيهة وأبحاثا معمقة، لكن الأكيد هو أن لفظة "شوايا" شرق سوريا كلمة احتقار وازدراء لفلاحين من أصول بدوية يسكنون في بلاد الرافدين، وهي في إطار التعميم لتشمل كل عربي بالجزيرة السورية، بما فيهم البدو وسكان المدن الذين كان لهم دور في ترويجها اجتماعيا وإعلاميا مستغلين بساطة الأرياف.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية