يخطىء من يظن أن بلداناً صغيرة ًمثل لبنان أو فلسطين أو اليمن، تعاني من وهن ناتج عن تفكك وتشرذم داخلي، هي قابلة وحدها للتحول إلى صندوق بريد. فأي بلد مهما ترامت أطرافه، أو عظمت مكانته الإقليمية، أو عمُق تاريخه، يمكنه أن يلاقي المصير نفسه، عندما يدب ويستفحل الخلاف ما بين مختلف مكوناته.
والعراق الدامي اليوم هو خير مثال. وليس بسبب الاربعاء الدامي، أو ما سمي ب11 أيلول بغداد وحسب، بل بسبب كل عمليات الاغتيالات والتفجيرات الارهابية السابقة، والتي أوقعت حتى اليوم وبعد عملية اجتياح العراق في 2003 من قبل القوات الاميركية،الوف القتلى والجرحى وما يقارب المليوني مهجر توزعوا في الأقطار المجاورة.
فالأيادي المجرمة والعابثة التي ما زالت تستهدف الدم العراقي وتستبيح أرضه، إنما كانت وما زالت تنفذ أوامر عمليات من أطراف خارجية مختلفة كل مرة، وتسعى لتبليغ رسائل متنوعة الأهداف لأطراف في الداخل العراقي أو لبلدان الجوار أيضاً مختلفة كل مرة.
قد يأتي الملف الأمني اليوم في مقدمة عناوين الرسائل المنوي إيصالها عبر التفجيرات الآثمة التي هزت العاصمة العراقية في الآونة الأخيرة،والتي استهدفت وبشكل متزامن أهم الوزارات والمعالم السياسية في هذا البلد العريق.
حيث أنها شكلت خرقاً لمنحى الاستتباب والتحسن اللذين شهدتهما الأوضاع الأمنية في العراق، بعد انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية وتولي القوات المحلية للملف الأمني.والجدير بالذكر هو تزامن الأحداث المفجعة الأخيرة، مع تفكيك أجهزة الاستخبارات العراقية، والتي تضم قوامها ما يقارب ال6000 عنصر، بعد استقالة رئيسها اللواء محمد الهاشمي،نتيجة مناكفات مديدة مع رئيس الوزراء المالكي. وكان ما يقارب ال290 ضابطاً من قوى الأمن قد تم استهدافهم وقتلهم في مراحل سابقة.
وهو وضع يحمل على الاعتبار أنه في غياب القوى الأمنية وخاصة الاستخباراتية منها، بات الداخل العراقي مكشوفاً ومعرضاً لتجدد النزاع الارهابي الطائفي، ولعبث الأيادي المجرمة أياً كان مصدرها، وصولاً إلى عدم الاستشعار بدخول شاحنات محملة بما يقارب ال8 أطنان من المتفجرات، وإلى عدم ترصد اقترابها من وزارتي الخارجية والمالية.
في سياق هذا التحليل ترى بعض الجهات أن رئيس الوزراء نوري المالكي كان مبالغاً في إعلانه عن التحسن على المستوى الأمني ، وعن قدرة واستعداد القوات العراقية على تولىي زمام الأمور، والإمساك وضبط الأمن كما يجب.
يبقى الملفت في تطورات الأحداث التي تلت هذه التفجيرات موقف الحكومة العراقية في مسارعتها لتوجيه أصابع الاتهام، وبعد مضي يوم واحد فقط من حصول التفجيرات، وقبل أن تتأكد وعبر تحقيقات جدية من تحديد تقريبي للجهة المسؤولة والمرتكبة لهذه المجزرة.وكأنها تستعجل لتحميل طرفاً معيناً تبعات الجريمة لابعاد الظنون عن جهة أخرى.
ولقد أجمعت وسائل الاعلام في العالمين العربي والغربي على استغراب هذا التصرف، خاصة وأن الجانب السوري المتهم من قبل حكومة المالكي،لم يكن مضطراً لكل تمثيلية الاستقبالات والحفاوة بالوفد العراقي الطويل العريض، في وقت كان على أهبة الاستعداد من ناحية أخرى وفي الوقت نفسه لضرب هذه الاتفاقيات، وإلى رمي الشقاق والخصومة مع الطرف العراقي، بواسطة هجوم مبرمج ومتزامن في مناطق متعددة من العاصمة العراقية. فالتوقيت وتسلسل الأحداث والمواقف وردات الفعل في هذه الموقعة هو مهم ولهو دلالة أكيدة،ولا بد من أخذه بعين الاعتبار. لأن تفجيرات بهذه الضخامة،والتي وقعت بتاريخ 19/8/2009 ،وتلت بنهار واحد زيارة الوفد الوزاري العراقي إلى دمشق، التي تمت بتاريخ 18/8/2009، تتطلب في حال تقديم احتمال عدم توصل الفريقين السوري والعراقي إلى اتفاق، على أقله مدة تحضيرية وليس نهار واحد فقط .والجدير بالذكر أن الرئيس السوري كان يقوم يومها بزيارة إلى طهران أولاً لتهنئة الرئيس الإيراني باعادة انتخابه، ولكنه كان يحمل أيضاً في جعبته أيضاً مشاريع اتفاقات إقليمية إيجابية. فمن جهة كان يهدف لوضع المسؤولين في طهران في أجواء الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرمته سوريا مع الوفد العراقي الرفيع المستوى برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، ومن جهة أخرى كان يسعى للتحضير لهيكلية الحلف الاقليمي الرباعي،السوري الايراني التركي العراقي. والسؤال هو كيف تكون مساعيه إيجابيةً بهذا الشكل، ويعمد على تفخيخ العاصمة العراقية في الوقت ذاته؟
وفي سياق تسلسل لاحق لهذه الأحداث المؤلمة ، سعت أطراف إقليمية أخرى لوضع رسائلها هي الأخرى في صندوق الساحة العراقية المشرع على كل التدخلات، فكانت الوساطتين الايرانية والتركية الساعيتان من أجل إصلاح ذات البين بين الدولتين الجارتين، على حد توصيفهما لتدخلهما الأخير.
ورسالة إيران تفيد بأنها معنية مباشرة بما يجري في حديقتها الخلفية،أي في العراق، حيث بات نفوذها وتأثيرها السياسي واللوجستي غني عن التبيان والبرهان.
مع العلم أن رسالتها الإخيرة هذه لم تتغير عن تلك التي وجهتها في السابق والتي تعلم من يهمه الأمر، بأنها بغنى عن تحشر أو تدخل أي طرف آخر في أمور العراق، حتى ولو كان هذا التدخل من قبل حليف "مبدئي"،واسمه سوريا. فكيف إذاً بإبرام اتفاقيات مع هذه "المحمية" أياً كان شكل هذه الاتفاقيات ، وفي غيابها أيضاً.... .
وفي ما خص تركيا فالرسالة التركية فحواها أن دورها بات محورياً وأساسياً في فض الخلافات في المشرق الاسلامي ،أما وقد بات العجز العربي في هذا المجال غنياً عن الدلائل والبراهين، وهو عجز متمثل أساساً في استمرار غياب الدور المصري التقليدي المعهود.
أما المجتمع الدولي فلقد انتهز الفرصة المتاحة ضمن هذا النزاع القائم بين دول الجوار،لاسقاط ورقة المحكمة الدولية،في صندوق الساحة العراقية.
وهي ورقة من الممكن أن يرفعها لاحقاً إما باتجاه سوريا، أو باتجاه إيران، تبعا لمنحى توجيه الاتهام المستقبلي بخصوص التفجيرات الأخيرة في العراق.
تعددت الرسائل والدم المسفوك واحد. وكل الأمل والرجاء أن يحزم العراقيون أمرهم ويشدوا أزرهم ويتفقوا لابعاد لعبة المصالح والتدخلات الخارجية عن بلادهم، حتى يعودوا أمة عظيمة عاصية على الطامعين والكافرين والخوارج.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية