أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عيناهاالسوداوان ... عربها : فيصل الملوحي



عرّبها :فيصل الملوحيّ






الكتاب تحكي رواية ألفونس دوديه ( ذلك الشيء الهيّن ) قصة رجل
كان ضحية رجال قلوبهم قاسية، استغلوا براءته
وأفادهم ضعفه الجسديّ وهوانه الاجتماعيّ، فساموه
أبشع أنواع الإذلال...وبخاصّة سخريات رفاقه وإهانات
مدير مدرسته، لكن كل هذا لم يضعف من عزيمته، بل
رفع من شأنه، وأعلى ذكره.
تركه أبوه، فعاش وحيدا، لكنه وجد في القراءة رفيقاً
وسلوى و ملاذا، واتخذ قرب النافذة من أريكة كبيرة دوّارة مجلساً له
..أما الطعام فكانت ممرضة تحمله بين
يديها مرة في الصباح، و أخرى في المساء، وماكان له
من زاد سوى قدح حساء يشربه، وجناح دجاجة يمتصّه،
ثمّ كلمتين يقولهما:(شكراًسيدتي)، فصمت يطبق
شفتيه بعدهما ..كانت الممرضة تُحسّ بالحُمّى تسري
في شرايين جسده، فلا تضايقه بالإلحاح.. أما هو فما
كان يكلّف نفسه نظرة واحدة إليها.
كرّر في صباح يوم كلمتيه المعتادتين(شكراً سيدتي )
بدون أن يُحوّل عينيه عن كتابه.. غير أن دهشته بلغت
حدّها حين سمع صوتاً رقيقاً ناعماً كأنه الحرير يدغدغ
أذنيه يقول له : كيف حالك اليوم ، يا سيد دانييل؟
رفع ( ذلك الشيء الهيّن ) رأسه .. فهل تتخيلون من
رأى ؟ إنهماالعينان السوداوان .. هما العينان السوداوان
تشيعان في نفسه الراحة بابتسامتهما العذبة.وتشرحان
له أن الممرضة مريضة، وهما مكلّفتان بالقيام بعملها،
ثم أضافتا - وهما تغُضّان الطرف - : إنهماتحقّقان
سعادة عظيمة في رؤية السيّد دانييل يتعافى ..ثم
تبتعدان في احترام بالغ قائلتين : إنهما ستعودان في
المســاء ..وعادت العينان السوداوان فعلاً في ذلك
المساء، وفي صباح اليوم التالي. لم يعد (ذلك الشيء
الهيّن ) يُحسّ بما حوله إحساساً كاملا .. وشكر حينها
لمرضه ومرض ممرضته وكلّ أمراض العالم ... فهذه
نعمة المرض عليه: أن يلتقيَ ( العينان السوداوان) .
ياالله ! ما أبهجها من مصحّة..كانت الساعـات تشدّه أن
يبقى خلال فترة نقاهته يدور في أريكتــــه قرب النافذة
و يدور ، ففي الصباح تطلّ عليه العينان السوداوان
فيراهما من تحت أهدابه الطويلة وقد نفحتهما الشمس
حفنة متلألئة من ذهب، وفي المساء تتألّقان في هدوء
ساحر، و تشعان في الظلام فتبددان مواكب الليل
البهيم .. كان ( ذلك الشيء الهيّن ) يحلم كلّ ليلة
بالعينين السوداوين، فيتأبّى النوم عليه.. ها هو في
فجركل يوم يُعِدُّ نفسه للقائهما، كانت أسرار كثيرة
تدفعه لهذا الإعداد، بيد أنه لا يقول شيئاً للعينين
السوداوين عندما تصلان. كان التعجّب الشديد من هذا
الصمت يلوح في العينين السوداوين .. كانتا تذهبان في
المصحة وتروحان ، وتختلقان أي عذرلبقائهما قرب
المريض ، ترجوان أن يبدأ الكلام .. لكن اللعين ( ذلك
الشيء الهيّن ) ما كان ليبدأ الكلام. تسلّح بالشجاعة
مرات ومرات، يقول: آنستي.. فتبرق العينان السوداوان
فورا، وتنظران إليه باسمتين لكنّهاابتسامة تُفقده وعيه،
وتشلّ حركته فيتوقّف عنده، ويقول بصوت متلجلج:
أشكر لك حسن معاملتك.. أوه .. الحساء رائع هذا
الصباح !عندها تتحول العينان السوداوان، وتلتفتان
التفاتة رشيقة عذبة كأنهما تقولان ماذا،أهذا كل ما في
الأمر؟! وتتنهّدان. وتغادران،فيعتصر الألم نفسه، ويحدّث
نفسه: ياالله غداً،حتماً، لن أخطئ..غدا سوف أكلمهما .
وفي الختام،حين نفدت مقاومته، وأحس أنه لن تكون
لديه الجرأة على الكلام، قرر ( ذلك الشيء الهيّن ) أن
يكتب إليهما .. وفي المساء طلب حبراً وورقة ، ليكتب
رسالة قيمة ..لقد خمّنت العينان السوداوان - بلا شكّ -
أنها الرسالة التي تنتظرانها .. إنهما ماكرتان ..وبسرعة
جرتا تبحثان عن الحبر والورقة ، ووضعتهما أمام المريض
.. وذهبتا تضحكان بعيدا .
أخذ(ذلك الشيء الهيّن)يكتب، وحين أشرق الصباح تبين
أن هذه الرسـالة ما كانت سوى ثلاث كلمات..أتسمعني
جيداً؟ فقط . ثلاث كلمات هي أبلغ ما في الوجود.. وظنّ
أنها سوف تترك أثراً ليس كمثله أثر.
ترقب الآن..ها هما العينان السوداوان قادمتان،فاضطرب
الفؤاد أيّما اضطراب،وارتعش البدن، وارتجفت اليدان ،لقد
حضّرالرسالة من قبل، وأقسم أن يضعها بين العينين
السوداوين فور أن تصلا . هكذا سيكون الأمر: تدخل
العينان السوداوان ، وتضعان الحساء والدجاجة على
الطاولة ، وتقولان : صباح الخير سيّد دانييل ، عندها
سأقول لهما فوراً بكل جرأة : أيتهاالعينان السوداوان
اللطيفتان هذه الرسالة لكما .
هس !..
خطوات رشيقة في الممشى.هاهما العينان السوداوان
تقتربان،وأمسك(ذلك الشيء الهيّن) بالرسالة في يده،
فخفق لها قلبه حتى كاد أن يتوقّف،
فُتح الباب..يا للهول،يا لفظاعة ما رأى ! لم تظهر في
الباب العينان السوداوان، وإنما هجمت عليه نظارتان
مرعبتان تضعهما تلك المرأة المزعجة.
ماكانت لديه الجرأة ليسأل: ماذا حدث، ما سبب هذا
الغياب، ولم عادت تلك المرأة، ولم تخلّفت العينان
السوداوان؟ ...انتظر المساء بفارغ الصبر .. يا للأسف،
في المساء لم تأت العينان السوداوان،وجاء اليوم التالي
بصباحه ومسائه، فلم تأتيا، ومر يوم آخر بعده أيام،
والأمل يلعــب به، ولا تنجز العينان السوداوان رجاءه.
لقد اصطادوهما، اصطادواالعينين السوداوين،
وأرسلوهما إلى صِبْية لقطاءحيث ستبقيان سجينتين
أربع سنوات حتى تبلغا سنّ الرشد.. لقد طار العصفور
من بين يديّ..
ضاعت فرحتي
.... إلى الأبد.

(94)    هل أعجبتك المقالة (87)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي