مع بداية الاحتجاجات ضد السلطة الحاكمة في لبنان تعالت أصوات مؤيدي وشبيحة نظام الأسد في مدح هذه الاحتجاجات مقارنة بالثورة السورية المسلحة منذ بداياتها -وفق زعمهم- متناسين أن هذه الثورة ظهرت بطابعها السلمي منذ الأشهر الأولى قبل أن يقابلها النظام بالدم والنار والبارود، بدءا من مظاهرة الحريقة والحميدية في دمشق بتاريخ (15/3/2011 ومروراً بمظاهرات بانياس وصولاً إلى درعا وحمص وباقي المحافظات السورية.
"لبنى" و"كندة زاعور" و"ريما دالي" و"رؤى جعفر" أربع فتيات أردنَ أن يعبرن بطريقتهن الخاصة عن الاحتجاج على النظام والمطالبة بالحرية فتوجهن إلى سوق "مدحت باشا" في قلب دمشق وهن يرتدين بدلات عرائس بيضاء اللون ووضعن على رؤسهن الطرحات ووقفن في وسط السوق حاملات لافتات حمراء تحمل شعارات سلمية ترفض القتل وتستنكر سيل الدماء النازفة في سوريا وبعد تجمع السوريين من حولهن بدأت الهلاهيل "الزلاغيط" والتصفيق وفي لحظات كان الأمن السوري يطوق المكان ليتم اعتقال الشابات الأربع في سجون النظام لمدة تقارب 50 يوماً إلى أن تم الإفراج عنهن في صفقة تبادل جرت بعد ذلك.
وغير بعيد عن سوق "الحميدية" كان عدد من الشبان منهمكين بتنظيف شوارع "داريا" ورفع الوعي بين المواطنين إزاء مكافحة الفساد، في أحد أيام العام 2013 ما دفع السلطات إلى اعتقال 24 شخصا والحكم بسجن 11 منهم لمدة أربع سنوات.
وكان من بين هؤلاء الشبان خياط يدعى "غياث مطر" يبلغ من العمر 26 عاما، قدم مثالا للشاب السوري الذي يحتج دون اللجوء لأعمال العنف، وكان "مطر" أول من أطلق مبادرة إعطاء عناصر النظام، عند دخولهم "داريا"، وردة وزجاجة مياه، وهي مبادرة شجعت العديد من البلدات والمدن السورية على الاحتذاء بها، لكن هذه المبادرة السلمية قوبلت بوابل من الرصاص، وتم اعتقال "مطر" وتعذيبه حتى الموت، ونشر ناشطون آنذاك مقطع فيديو لجثمان الشهيد ظهرت عليه آثار التعذيب، بالإضافة لشق من آخر القفص الصدري وحتى الخاصرة، خيط بخيط أسود غليظ في إشارة واضحة ربما لسرقة أعضاء الشهيد، الذي استشهد تحت التعذيب ولم يلبث إلا أياماً قليلة في أقبية المخابرات الجوية.
وابتكر ناشطو دمشق بداية الثورة السورية أساليب سلمية متنوعة لإيصال هدف وفكرة الثورة إلى الدمشقيين، ومنها بث الأناشيد الثورية بشكل مخفي وفي أماكن عامة وإطلاق بالونات ملونة تحمل عبارات ثورية من جبل قاسيون، أو صبغ البحرات والنوافير في الساحات العامة باللون الأحمر دلالة على شلال الدم الذي يُسال في سوريا.
ووضع آخرون قصاصات ورقية داخل البالونات تحمل رسائل لأهل دمشق، وجرى نفخ هذه البالونات بغاز الهيليوم وجُمعت عدة بوالين منها بشعلة كي تكون مميزة في السماء، وطيّر أطفال "داريا" خلال هذه المبادرة 200 بالوناً تم توزيعها على 80 زوجاً مع أكواز النار بالإضافة الى 30 بالوناً كل 10 منها طيرت علم الثورة وحملت هذه البالونات عبارات عديدة تحض على العدل والسلام والحرية من مثل "نريد وطناً لجميع السوريين" "نتمنى أن يعم السلام في سوريا" "داريا حكاية شعب وحب ووطن" "دمشق في القلب وقلبي في هوى حلب" "سنرجع يوما إلى شامنا" "كقنديل الليل تسافر أرواحنا كل ليلة لدمشق".
كما اعتاد ناشطو الثورة في دمشق على كتابة عبارات سلمية ومنها لا للطائفية، حرية، ارحل على كرات صغيرة ويتم وضعها في شوارع فيها منحدرات ورميها وفي اليوم التالي يستفيق الناس على منظر الشوارع مليئة بهذه الكرات التي تعبر عن رفضهم لوجود النظام.
وكما وُئد حلم "غياث مطر" بالحرية تم اجتثاث حنجرة "ابراهيم القاشوش" الذي كان يصدح بأغانيه في ساحة "العاصي" وسط حماة، وألهب قلوب أهالي المدينة وسائر المدن السورية لتتحول كلماته الارتجالية إلى شعارات وأهازيج شعبية تعبر عن تطلعات وآمال شعب صرخ بصوت واحد "ارحل ارحل يابشار"، ولكن صوت "القاشوش"، الذي لم يحمل سلاحاً ولم ينضم إلى "مجموعات مسلحة" كان كفيلاً بإغاظة النظام ولم يستطع كتم غيظه فقرر كتمه إلى الأبد ليُعثر على جثة المنشد الشاب ملقاة في نهر "العاصي" وقد قطع نصف رقبته واستئصلت حنجرته من الوريد إلى الوريد.
وقبل "غياث مطر" و"القاشوش" كان الشهيد "محمد عبد اللطيف العلوة" 31 من مدينة "انخل" بريف درعا من أوائل من عبروا عن سلمية الثورة ورفع غصن الزيتون أمام الجيش والأمن.
وبتاريخ 11-أيار مايو/2011 اختبأ في حفرة قرب منزله وعند اقتحام منزله رفض الأب الإدلاء بمكانه، وبعد وعود كاذبة من عناصر النظام بأنهم لن يمسوه بسوء قام الأب بإرشادهم إلى مكانه فما كان منهم إلا أن رموه برصاصتين برأسه وهو داخل الحفرة.
ومثلما تنادت المدن السورية لنصرة درعا بدايات الثورة السورية وترديد عبارة "يا درعا نحنا معاك للموت" تنادت القرى والبلدات المحيطة بدرعا إلى ما سُمي "فزعة حوران" رداً على مجازر قوات النظام في درعا البلد بتاريخ 23/3/2011، حيث انطلقت هذه الفزعة من مدينة الحراك التي يُطلق عليها ناشطون لقب "أيقونة الثورة السورية".
وشارك فيها آلاف المتظاهرين السلميين الذين حملوا سعف النخيل، وأغصان الزيتون فقوبلوا بالرصاص والنار ليسقط العشرات من أبناء المدينة ما بين شهيد وجريح.
وفي حمص التي أطلق عليها ناشطون لقب "عاصمة الثورة" ولم تتأخر الثورة فيها إلا أياماً قليلة لجأ أبناء المدينة إلى أساليب مرحة في التعبير عن احتجاجه السلمي على النظام تتناسب مع ما امتازوا به من الحس الفكاهي وروح النكتة، وأطلق ناشطو المدينة صقحة على "فيسبوك" باسم "مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات" في أيار مايو/2011، ثم صفحة "الثورة الصينية ضد طاغية الصين" في الشهر التالي من العام ذاته، وتجاوز عدد متابعي الصفحتين 300 ألف متابع.
وروى الناشط "تامر تركماني" لـ"زمان الوصل" الذي شارك في الثورة منذ بداياتها أن ناشطي الثورة في المدينة كانوا يجتمعون أمام الصيدلية العمالية –طريق حماة- ويمسكون بوري صوبيا ليظهر على أنه سلاح "آر بي جي" ويضعون داخله مفرقعات أو يحملون حبات باذنجان لتظهر على أنها قنابل ويلقون بها على جيش النظام الذي كان يجن ويخاف من هذه الأفكار أو يضعوا بامياء جافة في خيط على رقابهم لتبدو وكأنها رصاص أو يضربوا على أبواب الحديد للمحلات التجارية المغلقة حتى يظن عناصر النظام أنها أصوات رصاص أو يلجأ وا إلى وضع مكبرات صوت كبيرة على مفارق الطرق تنبعث منها أغان ضد النظام مما كان يتسبب برعب حقيقي لهؤلاء العناصر وبخاصة حينما يتم إطلاق صيحات "الله أكبر" فيظنون أن المتظاهرين هجموا عليهم.
ومن نهفات الحماصنة آنذاك –كما يقول تركماني- أن إحدى مذيعات محطة فضائية شهيرة سألت عما يجري في المدينة من قصف على الأحياء السكنية، فأجاب ناشط حمصي بلهجته العامية أن هناك "اطلاق نار على أبو موزة"، وهو يقصد أن هناك اطلاق نار كثيف وكثير في تعبير عامي ساخر ومتداول منذ زمن، لتعود المذيعة وتسأل "أين تقع منطقة أبو موزة في حمص؟".
وتحول الأمر نكتة تم تداولها كثيراً ليتلقفها الحماصنة مجدداً ويطلقوا على دوار «السيد الرئيس» (حافظ الأسد) اسماً جديداً هو "دوار أبو موزة".
واستعاد محدثنا جوانب من بدايات الثورة السلمية في حمص حيث كان آنذاك يخدم في جيش النظام وكان ضباط النظام يوهمونهم بأن هناك مجموعات إرهابية ومندسين ولدى نزوله في إجازة في الشهر السادس من عام 2011 خرج تركماني في مظاهرة كانت -كما يقول- سلمية بكل معنى الكلمة وبدون سلاح و- حتى عناصر جيش حر لحمايتها.
وتابع المصدر أن سلمية الثورة كانت مهمة حينها ولكنها أُجُبرت على التسلح بعد تغوّل النظام وإيغاله في دماء السوريين، إذ كان عدد الشهداء يصل إلى شهيد في اليوم غير الجرحى والمعتقلين، ولو أنها بقيت سلمية لأحرق النظام المدينة، وأباد أهلها وهذا ما حصل بالفعل.
ولفت محدثنا إلى أن مدينة حمص تختلف عن غيرها من مدن الثورة السورية فهي واقعة بين تكتل شيعي علوي على أطرافها وحتى في داخلها كانت هناك أحياء علوية كاملة، حيث مارس مؤيدون للنظام تشبيحهم على المتظاهرين الذين كانوا يحملون الورود وأغصان الزيتون.
ثورة الماء والورد التي حوّلها النظام إلى شلالات دم

فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية