
منذ أمد بعيد ،وأنا دائم التفكير في هذه الدنيا، وفي هؤلاء الناس ,وأتساءل، يا ترى لماذا لا يخصص المرء يوما ما في السنة لإعادة ترتيب حياته ؟ يوما يتأمل فيه في ماضيه ،حاضره، ومستقبله، يقلب صفحات الأيام التي توالت في الزوال، ويحسب للمسافات التي عليه أن يقطعها في المستقبل ، يومٌ يراجع فيه المرء مشوار ساعته الدنيوية طيلة سنة كاملة ،ليس يوما كرأس السنة ،حيث يحلو الهرج والمرج ،ويطلق المرء لنفسه العنان لتفعل ما تشاء ، تشيع الأفراح والبهجة في كل مكان وتغيب الحدود والقيود لليلة واحدة عن الجسد البشري.
يوم التأمل الذي نبتغيه يتصف بالهدوء والسكينة والخشوع للعوالم الداخلية والتفكير العميق، فلا شيء يشغل بالك ،لا شيء يقلقك ،لا مطالب تنغص عليك يومك ،ولا كوابيس توقظك من عز نومك، يوم لا عمل فيه ، ليس كيوم السبت عند اليهود ولكن أوسع واشمل معنى وغاية، يفتح فيه الناس في مختلف أنحاء العالم صدورهم للهواء النقي ، بعد أن تتوقف المصانع عن إطلاق أدخنتها وعن الإضرار بالبيئة الطبيعية ، وتتوقف السيارات عن نفث سمومها التي لا ترحم رئة بشر أو نبات ، يوم تتوقف فيه الهواتف المحمولة عن إتلاف خلايا أمخاخنا بإشعاعاتها، ونغماتها الغرابية ، وفضائحها التي لم يسلم منها حتى الطفل البريء، يوم التأمل هذا الذي نتحدث عنه تتوقف فيه القلوب عن إثارة الحقد والضغينة ، ويتوقف فيه الأشرار عن نشر الخوف والرعب في بيوت الناس الآمنين، يتوقف تجار البشر عن استغلال حاجة الأباء والأمهات ،يتوقف تجار السلاح وعصابات الحرب والجريمة ليوم واحد فقط عن تجارتهم الوسخة، وعن سيل الدماء التي تهدر بسببهم ، في هذا اليوم تُنشر الجرائد بأوراق بيضاء خالية من الأكاذيب والفضائح والمكائد التي لا تنتهي ،والتي يمكن أن تسقط شريفا من عليائه وترفع وضيعا إلى مراتب العلو والسمو000
وحبذا لو تتوقف في هذا اليوم الفضائيات عن نشر تحليلاتها التافهة وإعلاناتها عن البضائع المغشوشة التي فتكت وما تزال بجلود وشعور وذقون وبطون وأيادي وأعين الناس ، تتوقف كل الستلايتات عن نشر الفساد والإسفاف، وتكتفي بشارة وردة تتمايل مع النسيم أو حديقة ورود تبعث في النفس الإنسانية الأمل والتفاؤل بالغد الاتي00000000
في هذا اليوم الذي نصبو إليه يجلس فيه الجميع موحدين على الأرصفة وفي الطرقات الخالية، يتفكرون في أيامهم وأحوالهم ،وينسون فيه همومهم وبطونهم والسنتهم .
بالمختصر يوم تتوقف فيه الحركة في كل مكان إلا حركة الكون الأزلية ،يجلس فيها العدو إلى جانب عدوه ،ويغدو الجميع متآلفين متحابين ، يوم يذكرنا بسيرة الأنبياء والفلاسفة والنساك واعتكافهم للتأمل والتفكر في أحوال الدين والدنيا000
ما أحوجنا اليوم ونحن نستقبل رمضان إلى يوم كهذا ،وما أحوج أبناءنا وبناتنا إلى راحة للنفس والروح ،إنها فرصة كي يكفر فيه المذنب عن ذنبه، والغشاش عن غشه والمسيء عن إساءاته ، فرصة كي يتوقف فيه تجار الأغذية عن رفع أسعار موادهم أضعاف مضاعفة مستغلين حاجة الناس إلى بضائعهم في بداية هذا الشهر الفضيل 000
كم نتوق اليوم إلى تاجر شريف يبيع بربح بسيط، فيكسب ثواب ربه واستحسان اخوته وجيرانه وأصدقائه ،وما أحوجنا اليوم إلى تأمل الحكومة في أحوال الرعية علها تطلق مجموعة قرارات جريئة ،توفر اللقمة الطيبة للمواطنين البسطاء وتخفف من قبضة جباة الضرائب عليهم، ومن سحنات وجوههم التي تذكرنا برجال الشرطة ودهاليز السجون .
فمثلما هو رمضان كريم وسخي، نرجو أن يكون العباد أيضا كرماء بلطفهم وتسامحهم ،ونرجو أن تكون الحكومة اكثر كرما تجاه أبنائها الذين لا موئل لهم غيرها فهي الأب والام والراعية للجميع.
وكل عام وانتم والحكومة بألف خير

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية