أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تربيط الشبكة وتكسير القلم .. حسن بلال التل

لا احد يدعي ان هناك بالفعل حرية سقفها السماء في الصحافة او الاعلام، ليس فقط في الاردن او الدول العربية بل في العالم ككل، فحتى عندما يكون السقف عاليا لدى الافراد لأن الدولة لا تفرض اي قيود قَبلية او بعدية، مباشرة او خفية، فان السقف ينخفض لدى المؤسسات لأنها مقيدة بعشرات القيود من توجهات سياسية ومصالح اعلانية وحتى ارتباطات شخصية.

وللحق فقد نعمنا في الاردن منذ عودة الحياة الديمقراطية بسقف حرية مرتفع نسبيا مقارنة بأشقائنا العرب، وحتى انه اصبح مرتفعا بمعايير عالمية مؤخرا، وخصوصا بعد اجهاض وتفريغ قوانين المطبوعات والصحافة من اي مضمون حقيقي وهي مسألة اخالفها بشكل شخصي لانها حولت بعض الحريات الى انفلات. لكن وبمنظور عام يعترف الكتاب والصحفيون والمراقبون للوسط الصحفي بأن اغلب الرقابة هي رقابة ذاتية بالدرجة الاولى، ورقابة نابعة من المؤسسة بالدرجة الثانية، والتي في جزء كبير منها ايضا رقابة ذاتية يفرضها رؤساء التحرير على انفسهم وعلى مؤسساتهم لاعتبارات سياسية ومصلحية ومجتمعية، لذلك وعدا عن استثناءات بسيطة ومعلومة المصادر والدوافع بل وتتحمل الحكومة جزءا منها، فان الجسم الصحفي منضبط وبعيد عن الاساءة الى كيان الدولة او المجتمع او الثوابت الوطنية، ومعظم التجاوزات تتركز في قضايا مهنية بسيطة يعرفها المهنييون وقد تغييب احيانا عن القارئ، مثل: اخفاء المصادر، او تمويه الاخبار العامة لاظهارها بمظهر الخبر الخاص، او حتى السرقات بين الزملاء، وحتى مسأله تضخييم او (تبهير) بعض الاخبار لا تجاوز الاخبار الصغيرة والخفيفة التي لا تحمل اي تبعات سياسية او اجتماعية حقيقية، وهي تبقى ظاهرة مدانة لكنها لا تستحق التضخيم والتهويل.

لذلك فقد استهجنت كما معظم الجسم الصحفي الهجمة غير المبررة التي تشنها الحكومة منذ ما يزيد على الاسبوع على الجسم الصحفي بدءا بالصحف اليومية وليس انتهاء بالمواقع الاخبارية الالكترونية، إذ طالت هجمة الحكومة وتهديداتها حتى المدونات الفردية، وبصورة تكرر فيها الحكومة خطأ طالما وقعت فيه، ربما عامدة احيانا، بالتعميم عند الحديث عن الظواهر السلبية بصورة تُخفي المسيء وتبرر للحكومة أخذ الصالح بجريرة الطالح.

ففي البداية اطل علينا رئيس الوزراء بتهديد مبطن قال فيه: ان ابتعاد الصحافة عن المهنية يهدد سقف الحرية الصحفية. وهو ما لا يحتمل اي تفسير سوى التهديد الصريح بأن عبارة (المهنية) وهي لفظة مطاطة في كل المجالات وليس في الصحافة فقط، ستستخدم قريبا لخفض ان لم يكن هدم سقف الحرية. جاءت تصريحات الذهبي هذه مباشرة بعد تصريحات وزير الداخلية نايف القاضي، التي اتهم فيها من كتب حول عدد من القضايا الوطنية والهموم الشعبية التي لا تريد الحكومة الحديث حولها، بأنهم قبضوا (صرر مصاري) من مصادر اجنبية!! في حين يعلم جيدا انه في الاردن لا أحد يدفع للصحفيين او يلوي ذراعهم قدر ما تفعل الحكومة، وليست المنظمات الدولية غير الربحية التي اتهمها القاضي والتي في معظمها لا تقول الا ما يعرفه الجميع حق المعرفة، بل هي تلطف الواقع في كثير من الاحيان لاعتبارات سياسية ودبلوماسية. وقد يكون تطابق تقارير المركز الوطني لحقوق الانسان مع تقارير هيومن رايتس ووتش طوال سنوات مضت اكبر دليل على ذلك.

وقد يكون اكثر ما يحز في النفس ان القاضي وهو الرجل المشهود له بالاتزان والموضوعية ربط في هذه المرة كما ربط قبلها بين من يتحدثون حول الهم الشعبي وبين العدو الصهيوني، رادا ايانا الى زمن التخوين والاتهامات بالعمالة، وهو ذات الزمن والاسلوب اللذين كان القاضي وعدد من رفاقة -الذين ولسخرية الاقدار اصبح الكثير منهم جزءا من الجسم الصحفي- ضحايا له، ومحولا السواد الاعظم من الاردنيين الغيورين على وطنهم الى عملاء لكيان ما زال الاردنيون يرفضونه رغم ان الحكومة سالمته بل وصادقته.

وما زاد الطين بله اننا في الاردن الديمقراطي وفي قلب القرن الحادي والعشرين، والذي ألغينا فيه وزارة الاعلام لانها "تقيّد" حرية الصحافة تماما كما الغينا وزارة التموين لانها "تقيّد" حرية السوق، وكلاهما تصرف خاطئ، يخرج علينا وزير (الداخلية) بتصريحات حول "ترتيبات" للمواقع الاعلامية الالكترونية، وتصريحات حول العمل الصحفي والمهنية الصحفية، في ظل وجود وزير اعلام بقي صامتا حتى ايام، ووجود حفنة من المؤسسات الاعلامية الرسمية التي كل منها لها كادر وصلاحيات وزارة،
ورغم ذلك بقيت كلها صامتة.

لنصل اخيرا الى وزير الاعلام الذي توقع الكثيرون ان يكون اول تصريح له بعد التصريحات الصادرة من الداخلية وعنها، هو استقالته احتجاجا على تجاوزه بشكل سافر والتدخل في صميم عمله وهذا التعريض المرفوض بالجسم الصحفي، خصوصا وانه صحفي ورئيس تحرير سابق، لكن صمته الذي طال انفرج عن ما هو اغرب مما جاء به الرئيس ومن بعده وزير الداخلية، حيث اطل نبيل الشريف علينا بتصريحات اعتمدت على الكثير من المغالطات، والخلط المتعمد بين الحقائق والمصطلحات، واللجوء الى الكثير من العبارات المطاطة التي تتسع لالف معنى لاتهام الجسم الصحفي وبالذات المواقع الاخبارية ومواقع الصحف الالكترونية بكل الكبائر والموبقات، متعمدا الخلط الواضح بين المواقع الاخبارية الالكترونية التي يقوم على كثير منها (نقول كثير وليس الكل) صحفيون واعلاميون محترمون وبين المدونات الشخصية او (البلوج) التي يستطيع اي كان انشاءها وكتابة ما يحلو له بها، كما تعمد الشريف وبصورة تستخف بعقل وذكاء المتلقي الخلط ايضا بين الصحفي وبين المدوّن، وبين المصادر الصحفية وبين الصحفيين انفسهم، متهما المواقع الاخبارية انها تنشر اي شيء وكل شيء ضمن اخبارها، متعمدا الخلط مرة اخرى بين الخبر وبين تعليقات القراء التي تتعرض ايضا لتمحيص وتحرير من قبل معظم المواقع. لكن وللحق فان عددا من المواقع وحتى بعض الصحف تسيء وتتجاوز وتخوض في اعراض الناس وذممهم بلا دليل او ضابط بغية الابتزاز وتصفية الحسابات لكنها الشاذ وليست القاعدة، وما تمارسه الحكومة من سياسة التعميم، والتعمية على اسماء هؤلاء الافراد والجهات هو اسوأ من تجاوزاتهم كما انه امر لا ينبئ بخير، والاصل ان تعلن هذه الاسماء ويعاقب المتجاوزون، والحكومة لديها من الآليات ما يكفل ذلك.

كل هذه المؤشرات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك اننا مقبلون على مرحلة احكام عرفية صحفية, اذا حصل لا سمح الله وان امتد عمر هذه الحكومة, التي استبشرنا بها وبرئيسها خيرا في مرحلة من المراحل، حيث اصبح من المؤكد ان هناك قرارات حكومية قيد الطبخ لتربيط الشبكة العنكبوتية وتقييد مواقعها الاخبارية (الا المرضي عنهم)، ولتكسير عدد من الاقلام الصحفية التي تخط بحبر لا يعجب لونه الحكومة واجهزتها وربما تكسير ايدي الكاتبين بها، وإن كان الكثير منا يتوقع هذا التكسير والتربيط منذ مدة، فكلنا يجمع ان للحكومة ان تفعل ما تشاء الا ان تتهمنا في نزاهة اقلامنا ونظافة ايدينا وشرفنا المهني والوطني وشرف القلم الذي اخترنا ان نحمله وندفع ضريبته، فليس الاردني من يسكت على الطعن في شرفه.....

(98)    هل أعجبتك المقالة (124)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي