رغم أنها أوثق العلاقات البشرية، و أقواها تماسكاً على الإطلاق، إلا أن العلاقة بين الوالدات وأطفالهن الرضع ليست على ما يرام في سوريا، حيث تركت الحرب بصماتها على كل شيء تقريباً، لاسيما على الرضع الحلقة الأضعف على الإطلاق، مخلّفة شرخاَ بين الأمهات والمواليد الجدد، يُلاحظ من خلال تعثر عملية الإرضاع الطبيعي.
وهي ظاهرة آخذة بالتزايد وفق ملاحظات الأطباء في العيادات والمشافي، العاملة في الشمال السوري على وجه التحديد، الأسباب كثيرة وأحياناً قد لا تتبادر إلى الذهن، كما في حالة أم أديب 29 عاماً، تقول: "جف حليبي عندما كانت طفلتي بعمر شهر بعد أن نشب حريق في خيمتي، وتمكنت من إخماده بمساعدة الجيران ولكن مشهد النار تلتهم أجزاء خيمتي أصابني بصدمة أثرت على إدرار الحليب لدي وتوقف نهائياً بعد أيام." وتضيف أم أديب التي تقطن في أحد المخيمات على الشريط الحدودي "أجبرت على تأمين الحليب الصناعي، رغم صعوبة الحصول عليه، ويحز في نفسي أني عجزت عن إرضاع طفلتي طبيعياً بعد ذلك الحادث".
وعن قدرة الأسرة على تأمين الحليب للرضيعة الصغيرة تجيب والدتها "لم يكن العثور على الحليب الصناعي سهلاً للغاية كثيرا ما اضطررنا لشرائه من الصيدليات بأسعار مرتفعة بالنسبة لنا، وكان هذا أمر مرهقاً فزوجي عامل بناء وكثيرا ما يتوقف عن العمل شتاءً، كما أن الحليب الإغاثي غير متوفر على الدوام ولم أكن أخطط للإرضاع الصناعي بالأساس، فلم أخزن مسبقاً أيٍ عبوات للحالات الطارئة، قايضت بعض المواد الإغاثية –رغم حاجتنا لها- بعبوات الحليب كانت متوفرة لدى عوائل لا تحتاجها و أعتمد حتى اليوم على البدائل كالنشاء والأرز".
وجه آخر من المعاناة
وبينما يحتفي العالم بالمرضعات في الأسبوع الأول من كل آب، لا يبدو أنه مكترثاً للسوريات منهن، ومع أسبوع الرضاعة العالمي نزحت في آب الماضي، مئات العوائل بما فيهن عدد من المرضعات اللواتي أجبرن على الفرار تحت وطأة القصف الجوي على ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، باتجاه الشريط الحدودي.
تقول إيمان محمد (19عام): "نزحت من ريف إدلب الجنوبي (كفر عويد) مع أسرتي المكونة من زوجي وطفلتين ورضيع إلى الشمال على الحدود السورية التركية، وهناك افترشنا العراء مع عشرات العوائل تحت أشجار الزيتون لأيام، كنت أرضع بشكل طبيعي، ولكني افتقدت للخصوصية وشعرت بالحرج للإرضاع وسط العوائل النازحة والمنتشرة في حقول الزيتون، دون خيام أو ستائر، لا أنكر فكرت بالفطام ولكني عدلت عن رأيي بسبب خوفي من تعذر الحصول على الحليب الصناعي لطفلي الذي كان يبلغ سبعة أشهر قبل وصول كميات محدودة من السلال الإغاثية المزودة بحليب الأطفال" وتؤكد إيمان "تأثر انتاج الحليب لدي بسبب سوء التغذية وعدم وجود الغذاء الكافي والحالة النفسية الصعبة التي عايشتها خلال الأشهر التي سبقت نزوحي".
تعلق مديرة برنامج الحماية في منظومة وطن غادة العمري بالقول:" للأسف الكثير من الأمهات اللواتي تزوجن في سن صغيرة يفتقدن للدعم والمساندة والخبرة اللازمة لعملية الرضاعة الطبيعية، وكذلك انعدام الخصوصية الناتج عن النزوح والمبيت في أماكن غير مهيأة تدفع بالأم لوقف الإرضاع الطبيعي والاعتماد على الرضاعة الصناعية لذا فإن مناصرة قضية الرضاعة الطبيعية والتوعية بها والتأكيد على أهميتها للجهات الداعمة للمشاريع الانسانية في سورية من خلال دراسات احتياج حقيقية وموثقة هو واجب كل المنظمات العاملة في الشمال السوري إن كانت محلية او عالمية".
مشاهدات طبيبة
باتت تغذية الرضع والحفاظ عليهم بصحة جيدة "تحدياً حقيقياً" في عموم مناطق الشمال السوري، وبينما يوصي أطباء الأطفال ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف بالتمسك بالإرضاع الطبيعي في الحروب و الكوارث، يلاحظ تنامي الاعتماد على الإرضاع الصناعي في شمال سوريا،
وتبدي طبيبة الأطفال نهلا السعيد قلقها حيال صحة الرضع هناك، وتوضح : "من خلال مشاهداتي ومعايناتي في العيادات التي أتنقل بينها، يقلقني ما لاحظته من تنامي نسب الاعتماد على الإرضاع الصناعي مقابل الإرضاع الطبيعي"
وعن قائمة الأسباب الطويلة والمعقدة توضح:" هناك سوء التغذية بنسب متفاوتة يترافق مع حالة من عدم الاستقرار انعكست على جودة حليب الأمهات، فكيف سيتمكنَّ من الإرضاع الوالدي إن كن بحاجة لمزيد من الغذاء أصلاً؟" ومن ناحية ثانية تضيف السعيد" الغايات التجارية التي تدفع إلى تلميع صورة الحليب الصناعي في الإعلانات ساهمت في الميل نحو التغذية الصناعية رغم الإشارة الخجولة لأهمية الإرضاع الطبيعي الحصري خلال الستة أشهر الأولى من حياة الطفل، إلى جانب سهولة الحصول على عبوات الحليب المتوفرة ضمن السلال الغذائية قبل تراجع تمريرها مؤخراً"
وعن سوء التغذية أفاد الطبيب عروة عبد الله، بأن نسب انتشار سوء التغذية في شمال سوريا، ليست في المراحل الخطرة و المتقدمة (high public concern)، بل لا تزال في إطار (low or medium concern)، ومبيناً أن المنظومة قامت بإحصاء عام لنسب سوء التعذية لدى الأمهات الحوامل والمرضعات واللواتي يمثلن (8%) من المجتمع السوري و الأطفال دون الخامسة وكانت النتائج وفق الآتي)üالانفوغراف المرفق).
الطلاق والإرضاع
وبخلاف حالات وفاة الأمهات جراء القصف، يبدو أن أسباب اتساع الفجوة بين الأم ورضيعها أعقد مما نتصور ولا تتوقف عند الحالات السابقة بل تمتد لأسباب اجتماعية أيضاً، وعند هذه النقطة تصرح د.نهلا السعيد بالقول " أحياناً يراجعني رضيع بوجود أبيه وعندما أسأل عن الأم قد أفاجأ بأنها مطلقة، أو لسبب ما بعيدة عن مولودها شاهدت هذا مرات خلال عملي، ومن المؤسف حقاً رؤية طفل رضيع أبعد عن والدته أو أصبح محل نزاع وأداة تسوية خلاف بين الأم و الأب ويبدو هذا متاحاً بوجود البديل وهو الحليب الصناعي".
ولعل هذه الأبعاد الاجتماعية هي أسوأ آثار هذه الحرب، وأكدت الإحصائيات الموجودة لدى المحكمة الشرعية، بأن حالات الطلاق في سوريا ازدادت مقارنةً بين سنوات الحرب وما قبلها.
و تفيد إحصائيات القصر العدلي بدمشق، أن نسبة الطلاق ارتفعت عام 2017 إلى 31 بالمئة، حيث بلغ عدد حالات الطلاق في دمشق وحدها 7703 حالة، في كثير منها كانت حضانة الأطفال محل نزاع بين الأم والأب.
وأكد القانون السوري على حق الأم بالحصول على أجر الرضاع في حال انتهاء الحياة الزوجية وتنص المادة 102 من القانون السوري للأحوال الشخصية رقم /4/ والمعدل في العام 2019، على هذا وفق التفصيل الآتي:
1/إذا اشترط في المخالعة إعفاء الزوج من أجرة إرضاع الولد أو اشترط إمساك أمه له مدة معلومة وإنفاقها عليه فتزوجت أو تركت الولد يرجع الزوج على الزوجة بما يعادل أجرة رضاع الولد أو نفقته عن المدة الباقية.
2/ إذا كانت الأم معسرة وقت المخالعة أو أعسرت فيما بعد يجب على الأب نفقة الولد وتكون ديناً له على الأم.
وبحسب المادة الخامسة و العشرين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين، ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار".
التشجيع هو كلمة السر
تؤكد الدكتورة نهلا: "من شأن الرضاعة الطبيعية أن تحسن من نفسية الرضيع وجودة نومه، كما تحميه من الميكروبات والجراثيم وتعزز من دفاعاته المناعية، إضافة إلى أنه وسيلة من وسائل تنظيم النسل اللازمة والضرورية في حالات انعدام الاستقرار" وعن فوائد الإرضاع لصحة الأم على وجه التحديد توضح الطبيبة السورية: "للإرضاع الطبيعي فوائد كثيرة لو عرفتها الأمهات لزاد تمسكهن بها ولفترة أطول، حيث تؤدي الرضاعة الوالدية إلى تسريع فقدان الوزن وإعادة الجسم إلى وضعه الأول قبل الحمل، كما تقي من سرطانات الرحم والمبيض و تخلخل العظام عدا عن دوها في تأخير التبويض وتقليل فرص الحمل وتعزيز الحالة النفسية الإيجابية وخفض التوتر والاكتئاب، وبالتأكيد توفير نفقات بغنى عنها في حالات الطوارئ"
وهنا تختم طبيبة الأطفال د.نهلا السعيد بالقول "أؤمن بأننا كأطباء وأمهات نستطيع سوية تحقيق حياة أفضل لصغارنا، إذا ما تم تبصير الأمهات بأهمية الرضاعة الطبيعية لهن و لأطفالهن، بالإضافة لتكثيف جهود منظمات الإغاثة و العمل الصحي "
وهذا يتماشى مع توصيات الأمم المتحدة بالتمسك بالرضاعة الوالدية خاصةً في الأزمات والحروب، ولكن هذه التوصيات لا تكفي على ما يبدو، وتفيد انطباعات أطباء وطبيبات الأطفال في شمال سوريا بتراجع نسب الإرضاع الطبيعي، رغم غياب الإحصاءات الدقيقة، ولكن ثمة مؤشرات عامة تستند إلى المعاينات الإكلينيكية، تؤكد هذه الحالة، وهو ما ينذر بالحاجة إلى استجابة سريعة وجادة من قبل منظومات المجتمع المدني العاملة في سوريا وتحديداً في ما يسمى المناطق المحررة شمال البلاد.
بالمقابل تفتقر برامج المنظمات الإغاثية لحملات توعية خاصة بتشجيع الأمهات على الإرضاع الطبيعي في الأزمات والحروب، فيما اكتفت بعض المنظمات بعدم إغراق المخيمات بعلب حليب الأطفال كما هو حال منظومة وطن التي أوضحت على لسان الطبيب عروة العبد لله من منظومة وطن المسؤول عن برامج التغذية والصحة "إن المنظومة لم تدعم إغراق المخيمات والمناطق المنكوبة بعلب حليب الأطفال، واكتفت بتمرير عدد محدود من العبوات إلى المناطق المحاصرة فقط".
لا يجب أن تخيّر الأم بين العمل أو الإرضاع الوالدي
ومن وجهة نظر مغايرة، توصي الأمم المتحدة بضرورة ترك الخيار للأمهات وتؤكد أنه من الواجب أن تُمنَح الأمهات الحرية للاستمرار في الرضاعة الطبيعية طالما أردن ذلك، وتؤكد أيضاً أن الأم لا يجب أن تكون مخيرة بين العمل والاستمرار بالإرضاع، و تقول صفاء جعبر أحد الأمهات العاملات التي فضلت خيار الإرضاع الصناعي: "ليس بالضرورة أن أكون أماَ سيئة فيما لو قررت الاعتماد على الحليب الصناعي للأسف اتخذت قراراً بعد الإرضاع، لأني امرأة عاملة وموضوع الإرضاع الصناعي سيمنحني الوقت الكافي لإنجاز عملي، بحيث أتمكن من ترك طفلي عند أقربائي و الاستمرار في عملي الذي أحتاجه للمساهمة في إعالة أسرتي في هذه الظروف الصعبة، لا أنكر شعوري بالذنب وخاصة عندما أسمع تعليقات من أمهات أخريات ينتقدنني".
وبحسب الأمم المتحدة، سواء أكانت الأم مجبرة لاختيار الرضاعة الصناعية أم أنها اتخذت هذا القرار من تلقاء نفسها، مفضلة عدم الإرضاع الطبيعي فيجب أن يترك الخيار لها على الدوام، ولكن منظمة الصحة العالمية أكدت أنه يمكن تجنب وفاة 820 ألف طفل سنويا، إذا بدأت الرضاعة الطبيعية بعد ساعة من ولادة الطفل، واستمرت خلال الأشهر الستة الأولى، وتم تعزيزها بالأغذية التكميلية حتى يتم الطفل عامه الثاني. وبمعنى آخر قد يكون الموضوع اختيارياً للأم ولكنه لآلاف الرضع مسألة حياة أو موت.
تنتظر الكثير من الأمهات أمثال أم أديب مزيداً من الدعم و الرعاية الخاصة بالرضع، تقول :" ربما كان بالإمكان فعل شيء لمساعدتي على استعادة قدرتي على الإرضاع، شيئآن اثنان أتطلع أن لا أراهما مستقبلاً الخيمة والزجاجة الرضاعة الصناعية"
وحقيقة تقع مسؤولية التقليل من استخدام الزجاجة في تغذية الرضع وتشجيع الرضاعة الطبيعية أمر يقع على عاتق الجميع من منظمات طبية ومجتمعية ، فالرضاعة الطبيعية مهارة تحتاج إلى الكثير من الاجتهاد والمحاولة والصبر والحب أيضاً.
تمّ إنتاج هذه المادة الصحفيّة بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان" JHR وصندوق الأمم المتحدة لدعم الديمقراطية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية