اخرج من بيتي فتباغتني على راس الطلعة لافتة كبيرة تحمل صورة فتاة بتقطّع القلب تدعوني الى ان اساعد حليمة, اركب سيارة التكسي وعند اول جسر مشاة اجد لافتة اخرى على مد الجسر والنظر تطالبني بأن اشتري خاروف العيد من هذه الجمعية او تلك دعما لحليمة, انزل على طرف الشارع المقابل لـ((اللواء)) وقبل ان اعبر الشارع من على ممر المشاة الممسوح تضرب عيني يمنة او يسرة خوفا من باص مسفّح او بكب طاير قد يطيرني معه, فيصعقني اعلان بحجم بناية يأمرني ان اتبرع بزكاة اموالي (إن وجدت) لحليمة, افتح الصحيفة لأجد حليمة وجمعياتها تحتل 5 صفحات ملونة متتالية في كل الصحف, اعود الى المنزل اقلّب القنوات لاجد ان حليمة اصبحت اشهر من نور ومهند, حتى عندما انام يكون الحلم عن مساعدة ودعم حليمة, وفي زاوية الحلم عبارة صغيرة تقول هذا (الحلم فقرة اعلانية مدفوعة الاجر)!!
لا اقصد الاساءة الى حليمة, او اي من الجمعيات والمؤسسات والتكايا التي تسعى الى دعم ومساعدة الفئات الاقل حظا, والذين بفضل الحكومة او بالأحرى الحكومات المتتالية وسياساتها اصبحوا السواد الاعظم من الشعب, ولن استغرب لو وجدت يوما صورة لنفسي على احد هذه الاعلانات, (ولو انو شكلي مش سياحي ولا يوحي بأني استحق المساعدة), لان النهج الاقتصادي الذي نسير وفقه منذ سنوات ليس له اي نهاية محتملة الا ان يتحول الشعب الاردني الى اعلان حي للفقر والعوز, لكن ما اريد ان اقوله: رغم ان الاعلان مهم للغاية وهو وسيلة فاعلة في الترويج لاي فكر او فكرة او منتج مهما كان, ورغم النظريات الكثيرة التي تقول ان الدعاية والاعلان كثيرا ما يكونان اهم من المنتج ذاته, والنظرية الاشهر التي تقول (إن اردت ان تنجح فاصرف 90 بالمئة من رأس المال على الاعلان والباقي على المنتج), الا ان المسألة دوما تحتمل هامشا كبيرا من المقامرة, وبما اننا نتحدث عن ملايين هذا ان لم تكن عشرات الملايين نظرا لكثافة ونوعية هذه الاعلانات, فان الأولى هو التزام الحد الادنى او على الاقل المتوسط المقبول من هذه المغامرة ذلك اننا نتحدث عن اموال لجهات خيرية كلها او جلها جاءت من متبرعين يريدون لاموالهم ان تساعد المعوزين والمحتاجين بشكل مباشر ومضمون لا ان تذهب الى مغامرات غير محسوبة او مضمونة النتائج.
فاذا علمنا ان متوسط سعر صفحة الاعلان التجاري يقارب الالفي دينار, وكذلك سعر استئجار اللوحات الاعلانية في الشوارع الرئيسية لمدد محدودة, أما استئجار واجهة بناية فلا يقل عن 3-4 الاف دينار حسب الموقع والمدة, هذا عدا عن تكاليف المادة الدعائية ذاتها من تصميم واجور خطاطين ونقل وتركيب وخلافة, وقياسا الى حجم هذه الاعلانات وتقليعاتها الغريبة التي وصلت الى حدود (رشم) الشوارع بالمجسمات عدا الصور واللوحات, فان أيا كان سيعلم ان الكلف تدخل في خانة عشرات الملايين بكل اريحية, اما الناتج فلا احد يعلمه الا الله وادارات هذه المؤسسات والجمعيات, والذي وان كان فعلا يجاوز المبالغ المنفقة على الدعاية فان ذلك لا يقلل ابدا من مبالغ وتكاليف هذه الاعلانات التي يمكن ان يتم الاقتصاد بها الى حد بعيد وانفاق الفائض على الدعم الفعلي والمباشر لهذه الفئات المعدمة من ابناء المجتمع.
عشرات ان لم يكن مئات من المبادرات والافكار والحملات التي تقصد مساعدة هذه الفئة او تلك تُطلق في الاردن كل يوم, وكلها تتوجه قبل اي شيء الى وكالات الدعاية والاعلان العالمية التي تتقاضى اجورا خيالية مقابل (أفكارها) قبل حتى ان تخط حبرا على ورق, والملاحظ ان عددا محدودا جدا من الوكالات تحتكر الجزء الاكبر من هذه النشاطات لسبب غير واضح, والمبالغ المنفقة ضخمة واحيانا تكون بلا عائد فعلي, وكثيرا ما ظهرت حملات وانقرضت دون ادنى انجاز سوى اشغال الدنيا والناس بالدعاية والاعلان, لذا فالسؤال الواجب توجيهه الى هذه المؤسسات والجمعيات ذاتها: ((هل حقا تريدون مساعدة حليمة؟؟)).
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية