من المعروف أن آخر معقل للمعارضة السورية كان متركزا في شمال شرق سوريا، والذي يمثل حوالي 4% من مساحة أراضي البلاد التي تؤوي حوالي 3 مليون شخص، نصف هؤلاء نزح أو لجأ إليها من مناطق أخرى.
وبحسب التقديرات، فإنه في المناطق المحيطة بمحافظة إدلب، هناك 60 ألف مقاتل ومقاتلة أصروا على الاستمرار في مواجهة نظام الأسد وداعميه، وحوالي نصف عددهم أعلنوا جاهزيتهم لفصائل انبثقت عن تيارات تشكل جزءا كبيرا من المعارضة السورية. أما النصف الآخر فيعود إلى فرق جهادية بعضها ما يزال من الأوفياء لتنظيم "القاعدة".
ومنذ شهرين، كان هذا الجيب الصغير من المقاومة الثائرة نقطة مستهدفة من قبل النظام لتوسيع هجمات قواته عليها هو وداعميه، فشاهدنا هجمات أرضية وجوية، وموجات كبيرة من الغارات والقصف المدفعي فتحت الطريق أمام قواته التي تعتبر الأكثر موالاة له، من بينها قوات "النمر" المشهورة والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة.
لكن بعد أكثر من 10 أسابيع من المعارك المتواصلة، لم يستطع نظام الأسد أن يستعيد سوى نسبة واحد بالمائة من الأراضي على حساب دماء وحياة المئات من عناصر جيشه، بالإضافة إلى دمار عشرات المدرعات والدبابات وعدة طائرات.
في ذات الوقت، هناك 40 مدنياً قتلوا في الغارات، كما نزح 400 ألف سوري من المنطقة، وبدأت المخيمات تمتلئ بالسوريين الفارين، وشجرات الزيتون تتحول إلى ملجأ ثمين بالنسبة للعائلات الهاربة من القصف العشوائي المستمر على يد النظام.
وتشكل الأحداث الدائرة في إدلب دليلا ملموسا على أن نظام الأسد لم يعد لديه عناصر تكفي كي يستعيد السيطرة على المنطقة من جهة، ولكي يسيطر على الجزء الباقي للبلاد من جهة أخرى، خاصة وأن إيران سبق وأن رفضت أن تستخدم ميليشياتها للتدخل في المعركة "الإدلبية"، وكان قرارها بهذا الخصوص قطعياً.
وبالطبع، منذ شباط فبراير/ 2019 وخلال محادثات أستانا، عبرت طهران مسبقاً عن كون شمال شرق سوريا غير مهم بالنسبة لها من وجهة نظر أولوياتها الجيوسياسية.
كما أن غيابها عن محافظة إدلب أمر يعكس إلى أي حد المساعدة الإيرانية المقدمة للنظام، ولروسيا مرتفعة الثمن. أما التفكير بسحب القوات الإيرانية بشكل كامل لا يروق كثيراً لإدارة الرئيس الأميركي ترامب، والتي تطالب دوماً بخروج هذه القوات كشرط رئيسي لأي اتفاق دبلوماسي جديد ومهم مع إيران.
كان نظام الأسد يطمح لاستعادة كل شبر من الأراضي السورية، لكن نسبة الـ 4% هذه من الأرض تشكل تحدياً كبيراً بالنسبة له.. ففي اليوم التالي للهجوم الخاطف حديثاً على ريف اللاذقية، تبدو الإشارات بادية على تراجع قوات النظام، وعلى تخفيض تواجد عديد قواته على الحدود السورية.
أما إذا استمرت تركيا برفع جاهزيتها، وزيادة تقديم الآليات الثقيلة التي تتواجد على الحدود البينية، قد نشهد تغيرا في محافظة إدلب، باتجاه وضع جديد يمكن مقارنته بما يجري في قطاع غزة، أي أن تصبح المنطقة في حالة حصار مستمر خاضع لسلطة شبه "متطرفة".
وقد يكون هذا هدفا من أهداف "هيئة تحرير الشام" التي ترغب برؤية حكومة السلم السوري وقد أصبحت إدارة محلية على أرض الواقع.. وإذا استمر هذا الوضع على هذا الحال عنيفاً ومضطرباً، فإنه سوف يؤدي إلى تطور فصائل جديدة تابعة لـ"القاعدة" كما مقاتلي تنظيم "حراس الدين"، الذين هم واجهة للجهاديين في تنظيم "أسامة بن لادن"، ويقاتلون مجدداً في الصفوف الأولى.
بالرغم من أن هذه الفصائل تقول إنها تكرس نفسها للصراع العسكري شمال غربي سوريا، لكنها من المؤكد أنها لن تبعد منظارها عن عدوها البعيد وهو الغرب.
هذا وقد قصفت الولايات المتحدة الأميركية يوم الأحد 30 حزيران يونيو مواقع للقاعدة في شمال شرقي سوريا، بالرغم من حظر الطيران الذي أعلنته الدولة الروسية.. وهذا الهجوم الأول من نوعه منذ عامين، والذي يؤكد خطورة التهديدات الإرهابية المتواجدة في هذه المنطقة.
من الممكن أن يكون تنظيم "الدولة الإسلامية" قد فقد قاعدته الأرضية الواسعة ولكن ذلك لم يمنع التنظيم من تنفيذ عمليات شرق سوريا، خلال الأشهر التي مضت.
وبحسب تقارير محلية واردة، قام التنظيم بارتكاب 370 اعتداءً شرق سوريا منذ آذار مارس الفائت أغلبهم نفذ من قبل عناصر التنظيم وخلاياه النائمة.
ليس خفيا على أحد أن إدارة الرئيس الأميركي ترامب تراجعت عن سحب قواتها كاملة من سوريا بالرغم من الوعود الأخيرة بالانسحاب التام في كانون الأول ديسمبر الفائت، لكن قواتهم ستكون أقل عدداً على ما يبدو.
وحسبما جاء في خريطة الطريق المعلنة، لن يكون عدد الجنود الأميركان في المنطقة التي كانوا فيها سوى 400 جندياً منذ هذا الوقت وحتى خريف 2020.
من ناحيتها، ستزيد المملكة المتحدة (بريطانيا) وفرنسا من تواجدها العسكري في سوريا (ما بين 10 إلى 15 %)، كما أن بعض دول البلقان ودول البلطيق في أوروبا الشمالية التزمت بإرسال عدد غير محدد من الجنود، وبذلك سيتواجد على الأراضي السورية 600 جندي غير أميركي، بالإضافة إلى 400 أميركي سيبقون لنهاية الخريف القادم، لكن كل هذه الأعداد غير كافية لاحتواء مشكلة تنظيم "الدولة"، ولتدريب "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المرتبطة بالغرب، وأيضاً لدفع التهديدات القادمة من نظام الأسد وروسيا وإيران وتركيا، وكذلك لإقناع بعض العشائر العربية المترددة بأن تبقى وفية لـ"قسد" ذات الأغلبية الكردية.
المعروف أن تنظيم "الدولة" لا يسيطر سوى على شرق وغرب نهر الفرات، وهي منطقة مسيطر عليها نظريا من قبل النظام، لكنه تركها منذ بدء عملياته الهجومية على محافظة إدلب منذ أكثر من شهرين.. وبعد حصار فرضه النظام على التنظيم المذكور، هناك اجتماع أزمة مقرر عقده بين الأطراف المعنية، تشير التقارير إلى أن الخيار العسكري لرقابة وتشديد الخناق على تنظيم "الدولة" سوف يتم تحييده.
وإذا كانت إيران و"حزب الله" لم يشاركا في المعارك الدائرة في محافظة إدلب، قد يكون لمشاريعهم في المنطقة أهدافاً أخرى كنشر "الإسلام الشيعي" وحملات توظيف أشخاص جدد في الميليشيا الشيعية التابعة لهم، بالإضافة إلى مؤسساتهم الأخرى، وبعض المشاريع الدينية والثقافية الإيرانية.. وهذه المشاريع والنشاطات في هذه المنطقة التي تعتبر مأهولة بسكان محافظين تقطع الطريق أمام تنظيم "الدولة" الذي سبق وفعل ذات الشيء ووظف في مؤسساته من مريديه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية