فجأة وبدون مقدمات قامت أمي من مجلسها قبل ايام واحتضنتني واخذت بتقبيلي، ثم اتبعت ذلك بهدية اكتشفت انها بمناسبة ذكرى ميلادي الذي كان غائباً عن خاطري، ليذكرني به حضن أمي الدافئ، الذي حول أكثر من خمسة عقود من السنوات التي احملها على كاهلي الى شريط من الذكريات، لعل أبرزها انني تحولت مبكراً وقبل ان اصل الى سن العاشرة من عمري الى صديق وشريك وحارس وعصا لأمي، بسبب اضطرار والدي للابتعاد عن التفاصيل اليومية لحياتنا لظروف عمله خارج إربد من جهة، ولكثرة أسفاره من جهة أخرى، فكان علي ان ألعب دور الأب مع اشقائي وشقيقاتي وهو الدور الذي لازمني دائماً وحرمني من اشياء كثيرة في العلاقة بين الاخوة خاصة أنني قمت بالدور غير المرحب به من ادوار الابوه، أعني دور الضبط والربط، والأمر والنهي، وفرض النظام، دون ان اتمكن من لعب الدور المحبب في شخصية الأب المرتبط بالهدايا والحوافز والجوائز التي تجعل وجود الأب حالة تبعث على الفرح اضافة الى الارتباط العاطفي والمعنوي بين الآباء والأبناء.
دور الأب هذا لازمني طوال حياتي مع أشقائي وشقيقاتي، خاصة وأن أبي كان في كثير من الأحيان يصر على تكريسه حتى وهو موجود، من ذلك على سبيل المثال اصراره على ان أكون وكيل شقيقتي الكبرى في عقد قرانها، رغم وجوده، واصراره على عدم البت في خطوبة شقيقتي الثالثة قبل ان تنتهي ظروف كانت تمنعني من ابداء رأي في هذا الامر، اما شقيقتي الثالثة، فقد كنت انا صاحب قرار تزويجها، بالاضافة الى مواقف وتصرفات كثيرة قام بها أبي لتكريس هذا الدور وكأنه في سلوكه هذا معي كان يعمق شراكتي لأمي من جهته والتي كنت استشعر رغباتها قبل ان أقول رأياً في أي مسألة عائلية. ومن جهة أخرى كأن والدي كان يحملني مسؤولية شقيقاتي ومستقبلهن وهي مسألة تؤرقني، خاصة عندما يخطر في بالي ان احداهن قد تعاني من متاعب عائلية رغم ان كل الظواهر تؤكد عكس ذلك. ويزيد من انشغال فكري انني لا أحسن التعبير عن عواطفي من جهة. وأومن بان البيوت أسرار من جهة ثانية، وان كنت اتمنى لو انني لم ألعب دور الأب لأكون أقرب اليهن والى سائر أخوتي، فالاشقاء يبوحون لبعضهم في كثير من الاحيان أكثر مما يبوحون لآبائهم، غير ان الأبوه والاحساس بها تمنع الاخ من ان يكون قابيل الذي قتل أخاه حسداً. ولعل أبي في سلوكه معي أراد ان يكرس مفهوم التماسك الأسري، ويعلمنا ان لا يطمع أحدنا بما في يد أخيه. وان لا يطمح بما يطمح اليه أخوه فينافسه عليه وهي آفة انجاني الله منها وساعدني على ذلك أنني ما زلت شريك أمي، ومن خلالها أعرف حقائق أوضاعنا العائلية. بعد ان صارت العائلة الواحدة عائلات كثيرة. وصار بعض الابناء أجداداً. وصار الصبية كهولاً، وعلى الرغم من ذلك فانهم يحنّون الى أيام الطفولة والصبا. ويستشعرون دفء حضن الأم. ويغسلون همومهم فيه، كما حدث معي عندما حضنتني أمي قبل أيام فتذكرت وانا بحضنها دور الحارس الذي كنت أقوم به لأمي خاصة عندما كانت تضطر في بعض ليالي إربد في ستينيات القرن الماضي للخروج لاداء بعض الواجبات الاجتماعية، فكان علي ان أرافقها في الذهاب والإياب. وان انتظرها فيما بينهما قلقا. فقد تربينا على ان العرض بالمطلق غال، فكيف اذا كان عرض أم أو أخت أو زوجة؟ فما بال آباء واخوان لا يبالون وهم يرون بناتهم واخواتهم سلعة معروضة لكل عين وقحة وجائعه. ولا يبالون ان عدن الى بيوتهن بعد منتصف الليل وهم لا يعلمون أين كن؟ ومع من؟ وماذا يرتدين من ملابس؟ فقد ذكرني حضن أمي بالحوار الذي استغرق أياماً في بيتنا، عندما اقترح أبي على أمي ان ترتدي الجلباب الشرعي، فقد كان ذلك يعني ان تخرج في زيها الجديد دون غطاء الوجه الذي كانت تضعه كلما خرجت من المنزل. وبعد طول حوار وافقت أمي على ان تكون اول سيدة تخرج بالجلباب الشرعي الذي صارت صورته معروفة في الاردن، منذ ذلك الحين بعد ان كان والدي قد رآه في احدى سفراته خارج الاردن، ولم توافق أمي على ان تكون الرائدة بارتدائه الا بعد ان اقتنعت بالحوار. فقد كان أبي من جانبه ديمقراطياً، وكانت أمي قد نالت حظها من التعليم الذي صقلته الأجواء الثقافية والسياسية التي كان يعيشها منزلنا مما زاد من قوة شخصيتها وصلابتها واستقلالية رأيها. فصارت كالبحر اذا غضبت لا يقوى شيء على الوقوف في وجه أمواجها، أما اذا رضيت فلا شيء يداني سحر هدوئها او ينافس ثراء أعماقها وروعة صداقتها التي تمتعت أنا بها كثيراً. فمن فوائد الزيارات الاجتماعية التي كانت تقوم بها أمي، أنها حولتني الى صديق لها، ومن خلال هذه الصداقة كنا نتآمر على سائر اشقائي وشقيقاتي، ونكتم عنهم مخططاتنا المسائية فيأوون الى فراشهم باكراً. فلا يفكر احدهم بوضع برنامج للاستفادة من غياب الرقباء عن المنزل، وبمثل هذه المؤامرات وانكشافها في صبيحة اليوم التالي تقوى الروابط الأسرية لانها تضيف الى الحياة طعم المناكفات المحبة التي ترسخ في الذاكرة على مدى الايام. كما انها تزيد من قوة الروابط الأسرية التي صار مجتمعنا يفتقر إليها، مما أوقعه في الكثير من المشكلات التي صار يعاني منها جراء التفكك الأسري، خاصة على صعيد انشغال الأمهات عن ابنائهن وتركهم في كثير من الاحيان للخادمات وهو ما لم تكن لترضى به أمهاتنا، وازعم ان أمي أدت واجباتها وحصلت على حقوقها واثبتت حضورها الاجتماعي دون ان تتبجح بشيء عن حقوق المرأة ومساواتها، فقد كانت تحقق ذلك كله بالممارسة وبتوازن كبير جعلها تؤدي واجبها كأم وكزوجة دون ان تتخلى عن خصوصيتها كما يحدث للكثيرات من نساء هذه الايام اللواتي يهملن واجباتهن بذريعة تحقيق الذات والدفاع عن الحقوق، فلا يقمن بهذه ولا ينلن تلك، وتكون النتيجة حصاد الهشيم الذي يدفع المجتمع ثمنه. خاصة عندما تصير الأم كائناً ثانوياً في حياة ابنائها كما يحدث لشريحة واسعة من أمهات هذه الأيام اللواتي أوكلن شؤون ابنائهن للخادمات في حين اننا نحن الذين تربينا في احضان أمهاتنا وعلى حنانهن تظل أمهاتنا ضرورة من ضرورات حياتنا حتى عندما نكبر وتنعدم حاجتنا المادية لهن فعندها يزداد حضور الآباء والأمهات في عقولنا ووجداننا ويزداد حنيننا إليهم لنشعر بجذورنا وبامتدادنا في الزمان والمكان.
شريط الذكريات الذي حركه حضن أمي اعادني الى اربد الستينيات. فتذكرت من بين ما تذكرت الراحل جورج حداد، الذي عرفته أولاً صديقا من اصدقاء والدي على ما بينهما من تباين في المدارس الفكرية، فأبي من المنخرطين حتى أخمص اقدامهم في فكر الاخوان المسلمين وجورج من المتماهين في الفكر القومي السوري الاجتماعي ومع ذلك كانا صديقين حميمين يشتاق كل منهما للآخر ويسأل عنه، وتلك ميزة الكبار الذين لا يفسد اختلاف الرأي للود بينهم قضية فيتعاونون على ما يتفقون عليه ويعذر بعضهم بعضا على ما يختلفون عليه وهذه علامة الاخلاص والتجرد في سبيل الوصول للاهداف الكبرى التي يؤمنون بها لذلك لم يعرف بلدنا مع هؤلاء الكبار اي نوع من أنواع التعصب، خاصة على الصعيد الديني والمذهبي. واذكر انه كان لأبي صديقان كنا ننادي الأول «بعمي ابو سعدي والثاني «بعمي ابو مروان» اما ابو سعدي فقد عرفنا فيما بعد انه الاستاذ محمد سعد الدين خليفة الذي كان يوماً نائباً لقائد جوالة الاخوان المسلمين ثم اعتذر عن تولي منصب المراقب العام للجماعة قبل ان يعرض الموقع على المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة، بعد ان اعتذر محمد سعد الدين خليفة، أما الثاني فقد اكتشفنا عندما جاء ليودعنا بسبب هجرته لأمريكا انه مسيحي من آل حداد، وقد كان الضلع الثالث في مثلث الصداقة والاخوة التي جمعت بين حسن التل ومحمد خليفة الاخوين المسلمين. فهذا هو بلدنا وهؤلاء هم أناسنا الذين لم يعرف التعصب طريقه الى عقولهم وقلوبهم، لذلك بكى المسلم قبل المسيحي جورج حداد باعتباره مدافعاً عن حق الامة في فلسطين ومناصراً لمقاومتها في فلسطين ولبنان والعراق وفوق كل شبر من أرضها، فكانت الكلمة بالنسبة له ولجيله موقفاً والتزاماً دفع ثمنهما غالياً. فبعد ان عرفته صبياً برفقة أبي عرفته في مطلع الشباب. عندما كنت في المرحلة الثانوية، فقد كان معلماً ثم سكرتيراً لثانوية الأمير حسن بإربد وكنت احد طلابها في تلك المرحلة التي كانت تمور بالاحداث السياسية التي كان المعلمون والطلاب عمودها الفقري. وفي تلك السنوات كان من معلمينا في ثانوية الأمير حسن الاستاذ الدكتور احمد الكوفحي الذي صار فيما بعد من اشهر نواب الأخوان المسلمين في البرلمان الاردني، وكان فيها من معلمي الاخوان الاساتذة زين الدين مهيدات، وعلي العمري، ومحمد جردات، وكان بعضهم استاذي في الصباح ونقبائي في المساء، كما كان في المدرسة الاستاذ جورج حداد بفكره القومي الاجتماعي السوري، والاستاذ يوسف الزعبي بفكره القومي العربي، والمرحوم يحيى غرايبة البعثي العتيق، وآخرين من الذين كانوا يؤمنون بان مهمتهم لا تقتصر على ازالة أمية الحرف عند طلابهم بل محو أميتهم السياسية مثلما كانوا يؤمنون بان مهمتهم تخريج قادة يسعون الى التغيير لا موظفين يبحثون عن لقمة العيش.
بهذا الفهم مارس جورج حداد التعليم مثلما مارس بعد ذلك الصحافة والإعلام. ففي بدايات السبعينيات انتقل جورج حداد من التعليم في اربد الى الاعلام في عمان وانتقلت انا الطالب وفي نفس الفترة تقريباً من إربد الى عمان وجمعت بين الصحافة والاعلام ومتابعة الدراسة. وبقيت صلتي باستاذي جورج حداد لكنني اصبحت أكثر جرأة على مناكفته. بل لعلي كنت استمتع بهذه المناكفة فأوصلها الى درجة إغضابه لتتم «الصلحة» بيننا بعد ذلك على مائدة تجمعنا مع نفر من الاصدقاء الذين عاش ومات وهو يحبهم أذكر منهم العزيز عوني بدر، الذي ترافقت معه ومع صديق ثالث لجورج حداد لنقوم بواجب العزاء هو العزيز عبد الحميد المجالي، بالاضافة الى المبدع صلاح ابو هنّود لنتذكر معاً مواقف الراحل جورج حداد ولنستعيد ذكرياتنا معه فالحياة لا تزيد في النهاية عن شريط ذكريات تحركها الاحداث، مثل موت رجل بمستوى جورج حداد الذي لا يجوز ان نتوقف في تكريمه عند حدود تعداد مناقبه، فلا بد من تخليد أعماله وجمعها في أكثر من كتاب. لتكون معلماً للأجيال خاصة على صعيد فهم خطر الصهيونية الذي عاش جورج ومات محذراً منها فهل يعقل قومي وهل يسمعون النذير؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية