جاسوس نيتفليكس...

مسلسل الجاسوس ليس أول مسلسل تنتجه "نيتفليكس" للاحتفاء ببطولات الموساد، سبقه فيلم "أشرف مروان" وفيلم "خطف أيخمان" وسلسلة عن عمليات الموساد المخابراتية، وغيرها، ليضاف هذا الخط الإسرائيلي إلى خط التعددية الجنسية الذي لا يمكن خلوّ أي عمل في "نيتفليكس" منه، والتركيز على قضايا اليسار الليبرالي الجديد ضد السائد المجتمعي وليس ضد السلطة طبعاً مع استجابة "نيتفليكس" المتكررة لضغط أي حكومة وعرض ما يناسبها، ومع الوقت تصبح "هوليوود" هي الجناح المحافظ في الفنّ.

مسلسل "نيتفليكس" عن "إيلي كوهين" هو نموذج مثالي عن بروباغندا السلطة حين تحاول صناعة فنّ فتنتج كائنات هجينة وممسوخة ومليئة بالأكاذيب، حيث يجري في الفن كما في السياسة اعتبار السوريين كائنات مستباحة ولا تعبر عن نفسها أو لا تقرأ وتكتب حتى تردّ، وكأنه التاريخ السوري ليس موجوداً ومتاحاً ويمكن التأكد منه بمجرد مطالعة أي كتاب أو سؤال أي مثقف أو سياسي سوري.

المسلسل الذي أخرجه الإسرائيلي "جدعون راف" تكرار للصورة الأسطورية التي يروجها الموساد حول "إيلي كوهين" وبطولاته "الخارقة" في سوريا، والتي وصلت حسب الأسطورة إلى ترشيحه كنائب لوزير الدفاع، ولك أن تتخيل أن هذا الجاسوس الأسطورة تم القبض عليه متلبساً بينما يكتب الرسائل في منزله دون أن ينتبه حتى لشارع أو درج البيت.

المسلسل لا يقتصر على اختراع وقائع، ولكنه يخترع الواقع السوري من جديد أيضاً، بيئة اجتماعية ومعمارية وسلطوية لا تشبه المجتمع السوري ولا حتى سلطة البعث الفاسدة التي كانت موجودة في ذلك الوقت.

من يتخيّل أن سلطة البعث المسيطر عليها من الضباط كانت ستقبل بشخص مدني ومغترب أتى منذ عامين فقط ليكون فجأة في منصب نائب وزير الدفاع، ومن يتخيل أن زوجة "أمين الحافظ" تداعب "إيلي كوهين" في حفل عام وأمام زوجها، فيكون رد زوجها أن يصفه بـ"جنتل مان"، وأن حفلات جنس جماعي كانت تقام في الستينيات وكأنها حدث عادي ومن بروتوكلات السوريين التقليدية.

رواية "أمين الحافظ" ومدير مكتبه "منذر الموصللي" تنكر وجود علاقة أصلاً بين "أمين الحافظ" و"كوهين" فيما عدا لقاءات بالصدفة، وهذا إنكار طبيعي، ولكن يصعب وجود علاقة متينة دون أن تؤكدها روايات المعاصرين في تلك الحقبة التي كانت الكتابة السياسية فيها ما زالت قائمة قبل أن تُغلق في عهد حافظ الأسد، وحتى التقاء الشخصين في الأرجنتين غير مؤكد فضلاً عن كتابة رسالة توصية من أمين الحافظ نفسه بعد لقائه بيوم.

اللواء "أحمد سويداني"، رئيس المخابرات العسكرية الذي اعتقل بنفسه "ايلي كوهين"، وهو زعيم كتلة الضباط الحوارنة في الجيش قبل تصفيتها عام 1968، والذي يشير المسلسل إلى لقائه مع "كوهين" في الأرجنتين، لم يعيّن يوماً هناك.

كما تم نسبة دور متخيل لـ"إيلي كوهين" في انقلاب 8 آذار 1963، بناء على طلب "الحافظ والسويداني" منه دعوة رؤوس الحكومة إلى بيته ليقوموا هم بالانقلاب. هذا فضلاً عن اختراع لقاء جرى بين "كوهين" و"أسامة بن لادن" وهو طفل، حتى تكون الأسطورة ممتدة ومؤثرة في عالم اليوم.

وادعى المسلسل أن "جورج سيف" وهو إعلامي عادي كان على علاقة بـ"إيلي كوهين" أصبح وزير إعلام، وهو أمر لم يحدث.

الترجمة دخلت في الاستسهال نفسه مثل المسلسل، فالضابط "معزّى زهر الدين" يصبح "معازي ظهير الدين"، وهو ابن أخت رئيس الأركان وقتها اللواء "عبد الكريم زهر الدين" (وليس ابن أخيه كما يقول المسلسل)، والرائد "سليم حاطوم" يصبح بقدرة قادر "شريف حتوم"، وغيرها من الأمثلة.

اللافت أن المسلسل تجنب ذكر أي لقاء بين "إيلي كوهين" والضباط العلويين، رغم وجودهم وسيطرتهم على اللجنة العسكرية في حزب البعث الذي يزعم المسلسل أنه كان صاحب نفوذ فيه، بينما ركز على علاقته بشخصيات سنية ودرزية فقط، وكأنه لترك باب المفاوضات قائماً حول تسليم رفات "إيلي كوهين"، والذي سلّم نظام الأسد إسرائيل ساعته الشخصية العام الماضي، بينما تكلمت إسرائيل عن عملية مخابراتية لأجل ذلك. فضلاً عن اختراع المأساة والتعاطف الركيك مع الشخصية، ليكون عملها المخابراتي هو محض عمل إنساني، ويحزن عليه في النهاية حتى السوريون الذين تجسس عليهم وخدعهم، يبدو العمل الإسرائيلي أقرب إلى أمة مهزومة تبحث عن أبطالها الرومانسيين، وهو أمر نشاركهم فيه أحياناً.

هذا من مشاهدة أولية وسريعة فقط، يمكن لمن يشاهد المسلسل بتركيز أكبر أن يستخرج أكاذيب أخرى في الأسطورة، إن كان فيها أصلاً واقعة صحيحة واحدة عدا إعدامه.