عامان كاملان اتصفا بكل ما هو سيء وبائس ومؤسف ومخز مرا على الشعب الفلسطيني وقضيته "العادلة" تم فيهما الإساءة إلى ما يقال انه مقدس ومحرم، وسيطرت خلالهما نزعة من الأنانية البغيضة والمكابرة وعدم الإحساس بالمسؤولية لما جره ويجره هذا الذي حدث في مثل هذه الأيام من اقتتال وسفك للدماء بين "أبناء الشعب الواحد والقضية الواحدة" ومن يفترض أنهم "أبناء الخندق الواحد"، على هذه القضية
عامان مرا على أبناء فلسطين تبين خلالهما ان هنالك من العداء بين "الاخوة" في كثير من الحالات ما هو اشد من العداء للعدو الرئيسي، وتم خلالهما من الممارسات ما لم يكن من الممكن لأحد ان يتوقع ان تمارس، أو أن تصل بالأمور في الساحة الفلسطينية إلى هذا الذي وصلت إليه، حتى في أسوأ أو أفضل أحلامهم لم يعتقد الأعداء - الذين كان بدون شك لهم يد طويلة في كل ما حدث- بان الأمور في الساحة الفلسطينية يمكن ان تصل إلى ما وصلت إليه. وصار الانقسام هو سبب كل المشاكل وذريعة لكل تقصير فلسطيني أو عربي أو دولي وكأن الأمور كانت على شفى حفرة من الحل إلا ان الانقسام حال دونها.
المشكلة هي ان الكل الفلسطيني - بما في ذلك طرفي الانقسام- يجمع على ان ما جرى خلال العامين الماضيين كان الأسوأ في التاريخ الفلسطيني وانه اضر بالقضية الفلسطينية كما لم يضر بها أي حدث سابق وان حجم الدماء التي سالت بأيد فلسطينية والعنف الذي مورس لم يكن بهذا المستوى على مدار سنوات الصراع أو عمر الثورة.
لا شك انه حدثت خلال مسيرة الثورة الفلسطينية الكثير من الأحداث والصدامات بين أبناء الفصائل المختلفة، ووقعت معارك وحدثت ملاحقات واغتيالات وتصفيات واعتداءات، إلا أنها لم تصل أبدا إلى هذا المستوى من الدم والقتل ومحاولات الإقصاء والتخوين، وهي فوق هذا كله لم تؤثر على القضية الفلسطينية كما أثرت الحالة القائمة ولم تطل أبدا كل هذا الوقت من الزمن وكان يتم تطويقها واحتواء نتائجها بشكل سريع.
برغم ان الواقع الجغرافي كان دوما كما هو، أي ان غزة كانت دوما بعيدة عن الضفة إلا ان هذا الفصل كان دائما بفعل الاحتلال وقيام دولة الكيان العنصري، إلا ان حالة من التواصل والاتصال والتناغم والالتحام كانت دائما هناك، ولم يكن من الممكن لأحد ان يتصور بان هذا التباعد سوف يكون سببا في انقسام تمارسه الأيدي الفلسطينية، وأن تجعل منه حقيقة قاتلة، وتضعه هدية مجانية في اليد الإسرائيلية التي استعملته كذريعة لكل ممارساتها وعدوانيتها على أبناء الشعب الفلسطيني، هذه الممارسات التي وباعتراف الجميع لم تقتصر على قطاع غزة فقط، بل هي امتدت لتشمل الضفة الغربية بما فيها القدس، فزادت دولة الاحتلال من عدوانيتها واغتيالاتها وملاحقاتها واستيطانها وجدار فصلها ومصادرة الأراضي وكل الممارسات التي لا تخفى على احد من يكون.
منذ عامين وكل من الفصيلين المتنازعين يحمل المسؤولية عما حدث من انقسام للطرف الآخر، وكل منهما يقدم أسبابه في محاولة "لتبرير" كل هذا الدمار الذي جرى، فحماس تقدم الأعذار وتحاول تقديم البراهين ولها قصتها، بينما فتح تتبرأ من كل تلك الاتهامات وتقول ان كل ما تدعيه حماس ليس صحيحا، وانها إنما تحاول تبرير كل الدم الذي سفكته في القطاع خلال وبعد الاستيلاء عليه، وتاه الشعب الفلسطيني فيمن يصدق، خاصة وان ما ساقته حماس لا يستند إلى أرضية صلبة، عدا عن انه وحتى لو كان صحيحا لا يمكن ان يبرر كل ما شاهده العالم على شاشات التلفزة من قتل وتمثيل في جثث الضحايا والطرق المقززة للقتل.
البعض يرى بان ما قامت به حماس لم يكن إلا التعبير الطبيعي عن "العنف الديني"- إذا جاز التعبير- الذي ساد ليس فقط في الحقبة الأخيرة وإنما يمتد بجذوره عميقا إلى مئات السنين، بل ومنهم من يستذكر على سبيل المثال ممارسات بعض من قادوا امة الإسلام على مدار القرون الماضية مستشهدين بكل حالات إقصاء وتصفية الخصوم منذ مقتل عمر وعثمان وعلي، ومنذ ان تآمر واختلف خلفاء الأمة فيما بينهم للاستيلاء على السلطة، ومنذ مقتل الحسين على يد يزيد بن معاوية، ومنذ أن كان القرار الأول- على سبيل المثال- الذي اتخذه أبو العباس السفاح هو إخراج جثث بني أمية من القبور وجلد تلك الجثث وصلبها وحرقها.
ما حدث في غزة كان نموذجا لإقصاء الآخر، وما حدث قبل يومين عندما قامت قوات الحكومة المقالة بإطلاق النار على مظاهرة نظمتها الجبهة الشعبية تطالب بإنهاء الانقسام ليس سوى ممارسة من عشرات الممارسات التي تمت ضد أبناء الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة على مختلف توجهاتها ناهيك عن ارتضاء حركة حماس لان تقوم بما كانت تقول بأنها لن تقبل به من قبل فتح والسلطة من منع لإطلاق الصواريخ، فما الذي تقوم به حماس الآن؟ ألا تقوم بنفس الممارسة؟ ألا تمارس حماس هدنة غير معلنة مع دولة الاحتلال لا تبتعد كثيرا عن تلك التي نادت بها السلطة أو فتح؟ من هنا فان الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني يتساءلون عن سر المواقف أو المعايير المزدوجة للحركة حيث تبيح لنفسها ما تمنعه على الآخر.
وبالمقابل فان حركة فتح وبدلا من تنأى بنفسها عن السلطة وعما تقوم به من ممارسات على ارض الواقع ضد أبناء حركة حماس، فإنها تبنت كل ما قامت ولا زالت تقوم به السلطة من اعتقالات ومطاردات لأبناء حماس في الضفة المحتلة وهذا ما كان مدعاة للاستغراب من قبل الكثيرين الذين اعتقدوا بأنه كان لحركة فتح أن تميز نفسها وان تبتعد عن الخوض في هذه المعركة التي لا شك بان الجميع فيها خاسر برغم أن الممارسات في الضفة لم تكن بنفس الدموية التي جرت فيها الأحداث في قطاع غزة خلال وبعد الانقسام عدا عن سهولة نقل الحدث إعلاميا من مناطق الضفة الغربية بعكس ما يحدث في القطاع حيث يتم فرض تعتيم شبه كامل على كل ما يجري هناك؟
الآن وبعد عامين على هذا الانقسام وبعد كل هذا التلكؤ في الوصول إلى المصالحة إنما يؤشر على ان هنالك ضمن الفصيلين من لا يرغب في إنهاء الحالة المزرية التي وصلت إليها الساحة والقضية الفلسطينية، والتي أصبحت عقبة في طريق أي حل قد يكون في الأفق أو على الأقل هذه الحالة أصبحت كما نرى حجة يستند إليها كل العاجزين عن وضع حد لهذا الصراع المستمر منذ ستة عقود وأصبحت القضية في مهب الريح بينما تمارس إسرائيل كل ما تريد وترغب تحت ذريعة الانقسام وان لا شريك فلسطيني يمكن التعامل معه.
منذ فترة والجميع يدعي انه يسعى إلى إنهاء حالة الانقسام، لكن ماذا فعل أي من الأطراف سواء المتورطة في النزاع أو غير المتورطة وأين هو دور الجماهير الفلسطينية العريضة وهل يتم بذل جهود حقيقية من اجل الوصول إلى نهاية لهذا الوضع المأساوي؟ وهل يوجد نوايا حقيقية وطيبة من اجل وضع حد لهذه المهزلة التي يتسببها الانقسام؟ هناك ثمة من يرى ونحن منهم بان لا جهود حقيقية ولا نوايا طيبة نبذل في هذا الإطار، وهذا ما يؤشر على ان الحالة سوف تستمر وان هناك من استطابها ويعمل على ديمومتها، وهذا ما لا يمكن قبوله لان القضية الفلسطينية ليست ملكا لأحد بقدر ما هي ملك أبناء فلسطين والأمة ولن يكون مقبولا ولا بأي حال من الأحوال ان تبقى رهينة لهذا الفصيل أو ذاك.
14-6-2009
[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية