دكتوراه في الإعلام - فرنسا
لم يكن مفاجئاً لي البتة، عندما رأيت في إحدى قاعات التعليم، في جامعة فرنسية عريقة، كلمة "اقتصاد" وقد كتبت بهمز القطع.
فقد غلب على ظني فوراً أن المدرس لم يقصد هذا الخطأ، ولعله كان رهين السرعة عندما انزلق قلمه ليضيف الهمزة إلى الكلمة المذكورة.
ولكنني عبرت عن اندهاشي وشدة ألمي، عندما قال لي أحد الطلاب في تلك الجامعة، أن عدداً من مدرسي اللغة العربية يقول لهم: إنه لا يوجد فرق كبير بين الهمزتين وإنه لا أهمية للمسألة، حيث يذهب بعضهم أبعد من ذلك فيكتب أمر الثلاثي بهمز القطع، ويضيف هذه الهمزة إلى الأفعال الخماسية والسداسية متى شاء وكيف شاء!!.
تتفقون معي، أنني أملك كامل الحق في عدم تصديق من أخبرني بهذه المسألة، ولكن، وبدافع حبي للغة العربية، وبدافع الفضول أيضا، صرت أسأل بعض طلاب العربية عن دروسهم وما يتعلمونه في تلك الجامعة، وقد سمعت منهم العجب العجاب.
فإحدى المدرسات قالت لهم: ألا يقولوا سلّمت على كسلانانِ بالكسر، فهو ممنوع من الصرف وبالتالي عليهم أن يقولوا سلمت على كسلانانَ بالفتح.
ولا أعرف كيف استوى على لسان هذه المدرّسة أن تجرّ المثنى بألف وفتحة، فهو أغرب ما سمعته إلى اليوم، وهو أشدّ مما ذكره ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين.
احتفظت بحق " الشك"، وقررت أن أختبر هذه القصص بنفسي. كان شهر حزيران قد وصل، بما يعني أن العام الجامعي الجديد سيبدأ بعد أشهر قليلة، وهكذا جهزت طلباً للتسجيل في قسم اللغة العربية في إحدى الجامعات "العريقة دائماً".
أشرت في خطابي للأستاذ المشرف أنني أحمل شهادة الدكتوراه في الإعلام، وأنني جئت من بلد عربي، وأنني أطمع بالتسجيل للحصول على شهادة الدكتوراه أو على الأقل دبلوم الدراسات المعمقة في مبحث نحوي.
لم يطل الوقت كثيرا،ً فقد تلقيت دعوة من الأستاذ المذكور لإجراء مقابلة معه والتحدث في بعض القضايا التي تتعلق بالدراسة. وافقت على طلبه وعلى الموعد الذي حدده دون تفكير، وأسرعت إليه وكانت تلك المقابلة "الجميلة".
نصحني الأستاذ أن أتقدم بطلب جديد لدراسة دبلوم الدراسات المعمقة في اللغة العربية بدلاً من الدكتوراه لأنني جئت من قسم الإعلام، وقد يثقل علي "دراسة الشهادة الكبيرة" وافقت على الفور ودونما تفكير.
ثم طلب مني بعض الإيضاحات حول الموضوع الذي أنوي معالجته وما هي الوسائل والطرق التي أعددتها في سبيل تلك الغاية.
اقترحت عليه دراسة مقارنة بين بعض متون النحو، وطرحت مثالاً لذلك إجراء مقارنة بين " ملحة الإعراب" و"الآجرومية".
فاعترض الأستاذ بسرعة على فكرتي وقال لي مهلاً، هل معك الآن بعض المتون حتى نرى ماذا يمكنك مقارنته.
وللحق فإنني لا أمشي دون هذه المتون فهي زادي في النحو ومرجعي ، فأخرجت بعضها من حقيبتي ووضعتها أمامه على الطاولة، وخطأً وضعت معها متن "غاية التقريب" في الفقه للإمام العمريطي، ومتن "الجزرية" في تجويد القرآن للإمام ابن الجزري، فما كان من أستاذي المشرف إلا أن أثنى على متن "غاية التقريب"، بوصفه متناً في النحو" هذا متن معروف في النحو يشبه الألفية إلى حد كبير".
ولا أخفي أنني صدمت من هذا القول مع أنني كنت مستعداً لأي موقف على اعتبار أنني في مهمة صحفية أكثر من كوني قادماً لدراسة اللغة العربية بالفعل.
ولكن كيف يعتقد مدرس النحو في هذه الجامعة" العريقة" أن "غاية التقريب" هو متن في النحو وعلي أن أقارنه بمتن" الملحة" مثلاَ!!.
تذرعت للأستاذ بصعوبة "غاية التقريب" وطلبت منه أن يوافق على فكرتي السابقة، ولكنه نظر إلى مجموعة المتون التي أمامه وقال لي :دعني أسجلها في دفتري، سأفكر بعض الوقت وأرسل لك رأيي، ولم يكتف هذه المرة بتسجيل متن الفقه مع متون النحو، بل تجاوز الأمر ذلك حين سجل أمامه متن الجزرية قائلاً : هذا متن صغير الحجم قد يمكننا العمل عليه ولعله أفضل، هذا في الوقت الذي نرى فيه وبمنتهى الوضوح، تعريف المتن على صفحة الغلاف!!.
بالنتيجة قُبلت في تلك الجامعة، ولكنني لم ألتحق بها خوفاً على ما أعرفه في النحو وهو قليل لا يتحمل التكسير أو التمزيق.
لم تنته تجربتي مع "الجامعات العريقة" عند هذا الحد، إذ رأيت أن أسجل في السنة الأولى في قسم اللغات الأجنبية في إحدى الجامعات لأتعرف على المصيبة بشكل أوضح ومن داخل الجامعة نفسها.
كنا في شهر أيلول، أسرعت بطلبي للجامعة الجديدة و"العريقة" أيضاً. وبعد أخذ ورد من قبل الموظف المختص حول فائدة تسجيلي في هذا القسم، كوني أحمل شهادة الدكتوراه في الإعلام، و" مُعمّر" ومتأخر في تقديم الطلب أيضاَ، وافق على إرسال الطلب لرئاسة الجامعة التي وافقت بدورها على قبولي في السنة الأولى، التي يجب أن أتابع فيها أربع لغات، العربية والإنكليزية بشكل رئيس، بالإضافة إلى الألمانية واليابانية بعدد ساعات أقل.
مغامرة جميلة تلك التي تخوضها وتدفع فيها المال أيضاً وتذهب بسببها إلى الجامعة يومياً، وتجلس مع طلاب السنة الأولى الذين لا يكفون عن النظر إليك بدهشة واستغراب.
ولكن لا بدّ من تلك المغامرة للتعرف عن كثب على مستوى اللغة العربية في جامعة تعلم هذه اللغة من عشرات السنين وتدعي أنها مرجع للنحاة والأدباء وأنه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
اليوم نحن في شهر كانون الأول، بدأت الامتحانات، عليّ أن أقرأ أمام مدرستي نصاً صغيراً، وعلي أن أنتبه لقراءته جيداً فهو دون تشكيل ودون علامات ترقيم أيضاً.
بعد قليل من الانتظار جاء دوري. الجملة الأولى مكتوبة هكذا: سعيد ومنيرة ذهبا.....الخ. بدأت القراءة بالتشكيل طبعاً، فقلت: سعيدٌ ومنيرةُ.....فأوقفتني المدرسة: انتبه لا تقل "سعيد" بضمتين بل بضمة واحدة، اعتذرت لها بلطف: لا يا أستاذتي لا يسعني إلا أن أقول "سعيد" بالضمتين كلتيهما.
غضبت وحذرتني من تجاوز الأدب، اقرأ بضمة واحدة فهو ممنوع من الصرف!!. ما الذي منعه يا سيدتي؟!. قالت: انظر جيداً إلى كلمة "منيرة"، إنها من وزن " فعيل" وهي ممنوع من الصرف، وبالتالي فإن "سعيد" ممنوع من الصرف أيضاً لأنها من الوزن نفسه!!.
أستاذتي الكريمة إن " منيرة" ممنوع من الصرف لأنها علم مؤنث ولا علاقة "لفعيل" بالمسألة، فضحكت ضحكة شقت صمت القاعة، وهل الأسماء المؤنثة ممنوعة من الصرف؟ أ تؤلف لنا لغة جديدة؟!. لم يكن بمقدوري الرد على هذه المدرّسة إلا الخروج من القاعة.
إني أتسائل، هل يصدق أحد أن هذه السيدة مدرّسة لغة عربية في جامعة مرموقة في فرنسا؟
وكيف وصلت إلى هذه الجامعة؟ ومن عيّنها ولماذا؟ وماذا يعكس مستواها؟ وما علاقة هذا المستوى بوسائل الإعلام العربية منها والفرنسية؟.
هل هناك من يريد لمدرّسة في جامعة ألا تتقن أبسط مسائل اللغة العربية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فماذا يريد هذا "الأحد" لمستوى طلاب هذه السيدة أن يكون؟
ومن هو هذا "الأحد"؟ وما واجب وسائل الإعلام العربية تجاه أبنائنا المهاجرين!!.
لم أحاول في هذا المقال سرد حكاية شخصية، بل اعتبرته مقدمة لمقالات أخرى أتناول فيها أيضاً مستوى اللغة العربية بين أبناء المهاجرين العرب الذين يتعلمون في المساجد أو مع الطلاب القادمين من البلاد العربية، ثم أعرّج أخيراً على أسباب انحسار مستوى العربية في بلاد المهجر وعلاقة المؤسسة السياسية والإعلامية العربية بذلك ولعل للحديث بقية.

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية