كل شيء في مخيم الزعتري ـ شمال الأردن- أصفر اللون كالح الملامح، الرمال والخيام، ووجوه الناس المرهقة من الألم، والمتعبة من طول أمد هجرة لا بوادر لنهايتها، وحدها جداريات الفنان السوري الشاب "محمد جوخدار" التي تزين واجهات بعض الخيم تحاول أن تصنع البهجة وتبعث الأمل، وترسم شيئاً من الفرح.
وينحدر "جوخدار" من حي "باب السباع" الحمصي 1986، حيث ولد ونشأ في أسرة تهتم بالثقافة والفن، ويمتلك ثلاثة من أفرادها مواهب متعددة، ومنذ الصغر كانت حصة الرسم هي ما ينتظره، إذ دأب على رسم الأشخاص والوجوه على ألواح الكرتون، ولكن بعد فترة شعر بأن هذا الرسم لا يلبي شغفه فبدأ ـ كما يروي لـ"زمان الوصل" برسم الشخصيات التاريخية مثل المعلم "البستاني" و"ابن النفيس" وغيرهما من الشخصيات، وبدأ يطور نفسه بمفرده، إذ لم يتمكن من الالتحاق بمعاهد فنية للتدرب على الرسم يقول: "كنت دائم البحث والاكتشاف في هذا المجال، تلقيت الدعم والتشجيع من العائلة، وهذا كان الدافع للاستمرار وتطوير موهبتي".
وتابع الرسام الشاب أنه اعتاد على تلبية الطلبات الخاصة "بورتريه" مقابل أجر بسيط يتمكن من خلاله من شراء مواد ومستلزمات الرسم، كما اعتاد على نقل لوحات فناني النهضة ورسم المناظر الطبيعية.
بتاريخ 3/1/2013 مع اشتداد الحصار على حمص وحي "باب السباع" الثائر اضطر الفنان الشاب للنزوح إلى الأردن ليدخل إلى مخيم "الزعتري" للاجئين السوريين وكان بداية في لجوئه –كما يقول- بحالة نفسية صعبة لأنه اضطر لترك بلاده والأرض التي ولد فيها.
حاول جوخدار العودة لعالمه الأثيري- الرسم في المخيم الصحراوي، ولكن واجهته مشكلة في تأمين المواد الخاصة لأن ثمنها باهظ، غير أنه تمكن من التغلب على هذه المشكلة باستخدام توالف خشبية صنع منها إطارات اللوحات وثبت عليها بقايا مستهلكة من قماش الخيمة، وجهد -كما يقول- إلى سكب معاناته على اللوحات التي يرسمها وتوثيق ما يحصل في سوريا كحلب وإدلب والغوطة.
بعد فترة من مكوثه في "الزعتري" بدأ الفنان إنجاز العديد من المشاريع الفنية بالاتفاق مع منظمات إنسانية تعمل ضمن المخيم، ومنها مشروع رسم جداريات على محيط المخيم كاملاً مع محيط القطاعات التي تضم المشروع.
ويهدف هذا المشروع –حسب قوله- إلى تزيين قطاعات المخيم وكل قطاع فيه يحمل اللون الخاص به وكل لون له موضوعه، مثلاً قطاع في اللون البني وموضوعه كان عن التراث والحضارة، وهو من أجمل القطاعات بالنسبة له، حيث جسّد تراث وآثار وحضارة سوريا حتى يعرف الجيل الجديد الذي ولد في المخيم أو لجأ صغيراً ما هي سوريا وما تاريخها.
ورسم الفنان الثلاثيني عدداً من المواقع التابعة "UNICEF" وجداريات عدة داخل مخيم "الزعتري" ومخيم "الأزرق"، كما قام بتدريب عدد من أطفال وشباب المخيم على الرسم ضمن دورات مخصصة لهذا الغرض، ويعمل حالياً مع منظمة "Mercy corps" التي تعنى بدمج الاطفال من ذوي الإعاقة مع الأطفال من غير ذوي الإعاقة في التعليم، ويعمل معهم في تعليم الاطفال من ذوي الإعاقة على الرسم.
وأبان "جوخدار" أن ما دفعه لخوض تجربة رسم الجداريات هو إمكانية رؤية هذا النوع من الفن من قبل جميع سكان المخيم والزوار بسهولة ويسر، بعكس المعارض العادية التي تحتوي على لوحات في صالات نخبوية لا تتيح لكل الناس الاطلاع عليها علاوة على أنه ينتمي –كما يقول- للمدرسة الواقعية.
ونوّه المصدر إلى أنه يستقي أفكاره من الواقع المحيط، حيث رسم جداريات عن التوعية بتوفير المياه وعن التعليم وعن التراث، لافتاً إلى أن "المواضيع الاكثر إلحاحاً بالنسبة له هي التراث وإدخال النقوش التراثية في الكثير من الأعمال".
وأردف أن هناك قطاعاً كاملاً في المخيم تُعنى جدارياته بالتراث السوري والعربي، لتتكون عند الطفل المولود داخل المخيم صورة عن العادات والتقاليد والتراث السوري.
وتوقف الفنان الشاب ليشير إلى أن المراحل التي تمر بها جدارياته تختلف باختلاف المكان أو الموقع المطلوب فهناك مواقع تعنى بالأطفال، وهناك مواقع لجميع الناس الكرفانات السكنية مثلاً، فهناك مرحلة معاينة الموقع وانتقاء الموضوع الذي يعود بحسب شكل الكرفان وزاوية الرؤيا، ومن هنا يبدأ التخطيط وتوزيع الألوان بالشكل الذي يتناسب مع الموقع فالأطفال يحبون الألوان بشكل عام ويتم التركيز على الألوان الزاهية التي تبعث في نفس المشاهد البهجة والسرور.
وعبّر محدثنا عن سروره بتشجيع المحيطين به لأعماله، وهذا يشكل حافزاً في الاستمرار بهذا الفن، وبخاصة شريحة الأطفال كونه يشركهم على الدوام بهذه التجربة بشكل مباشر ويتيح لهم فرصة رسم ما يجول في بالهم والتعبير عن أحلامهم على هذه الجداريات.
وحول عدم مقاومة لوحاته وإمحائها بفعل عوامل الطبيعة والزمن وبخاصة في ظروف صحراية كظروف "الزعتري"، وهل يقلقه هذا الأمر أبان "جوخدار" أن عمر الجدارية قصير فعلاً قد يستمر لسنة أو أكثر كونها ترسم على سطح معدني، ولكن هذا الأمر -كما يؤكد- لا يؤثر على حماسه لأنه سوف يعيد رسمها في وقت لاحق ورسم مواضيع جديدة ايضاً.
ولدى سؤاله عن الجدارية التي كان لها تأثير في داخله كفنان وإنسان، أشار "جوخدار" إلى لوحة جسد فيها امرأة مسنة من فلسطين ترفع مفتاح منزلها مشيرة بالعودة إليه يوماً ما، وهناك -كما يقول- لوحة لامرأة عجوز أخرى تدعى "أم صدام" وهي والدة صديقه رسمها لأنه رأى في عيونها القوة والصمود، ورغم كل التجاعيد التي تغطي وجهها فهي امرأة قوية تمثل قوة الشعب السوري وصبره على المعاناة التي يعيشها.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية