الحديث عن الأردن في ذكرى الاستقلال له طعم خاص ونكهة مميزة. لأنه حديث عن النفس، وعن التاريخ. وعن الماضي والحاضر والمستقبل. وهو حديث هذا كله، لأنه حديث عن الوطن الذي نحبه ونستمد قيمتنا وكرامتنا من قيمته وكرامته. وبعد ذلك حديث لإحقاق الحق وتباين الحقيقة التي بذلت جهود كبرى لطمسها، من خلال الزعم بأن بلدنا هذا الذي نحتفل باستقلاله ليس أكثر من كيان مصنوع لا أساس له، ولا جذر يسنده. وفي هذا الزعم فوق الظلم للأردنيين اعتداء على التاريخ ومسح للذاكرة وتخريب للوعي. فكل حقائق التاريخ الدامغة تؤكد أن الأردن كان عامراً بالحياة شريكاً في بناء الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ. و إلا ما معنى وجود البتراء عاصمة الأنباط فوق أرض الأردن؟.
∎ وما معنى انتصارات ميشع ملك مؤاب على العبرانيين؟
∎ وما معنى وجود مدن الديكابولس العشرة في الأردن؟ .
∎ وما معنى وجود هذا الكم الكبير من أضرحة ومقامات الأنبياء والصالحين فوق كل تراب الأردن؟.
∎ وما معنى أن يفرد أمير المؤمنين الصدّيق جيشاً خاصاً لفتح الأردن سمي بأجناد الأردن؟
الا تدل كل هذه الشواهد وغيرها من آثار عمان وجرش والأزرق وفحل والحميمة ومؤتة. على أن بلدنا هذا كان على مدار التاريخ ينبض بحياة أبنائه، الشركاء الأساسيين في بناء الحضارة الإنسانية، عموماً وحضارة هذا الشرق العظيم. أم أن الذين بنوا المدرجات في أم قيس وجرش وعمان. والذين بنوا أقواس النصر في مدن الأردن العظيمة. والذين حفروا البتراء والذين نقشوا حجر ميشع هبطوا من كوكب أخر ليستغلوا هذه الأرض ويورثوا لنا كل هذه الآثار العظيمة؟!
ان القراءة المتأنية للمصادر التاريخية الموثوقة تؤكد بأن الأردن لم يكن في مرحلة من مراحل التاريخ خالياً من الحياة الإنسانية الناشطة. وأن شعبه لم يكن معزولاً من التفاعل والمشاركة في أحداث هذه المنطقة من العالم سواء كانت هذه الأحداث سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية. وإذا كان المجال الآن ليس مجال الحديث عن التاريخ البعيد للأردن. فانه حديث التاريخ القريب للأردن والأردنيين. وهو التاريخ الذي أسفرت مخاضاته عن قيام الدولة الأردنية الحديثة، والتي نحتفل هذه الأيام بذكرى استقلالها. كثمرة مادية وحيدة باقية من ثمار ثورة العرب الكبرى، ضد انحرافات الطورانيين دفاعاً عن الخلافة الإسلامية. وهي الثورة التي شارك فيها الأردنيون بفعالية، وكانت أرضهم مسرحاً لأكثر وأهم عملياتها العسكرية مثلما كانت هذه الأرض الحصن الذي منع سقوط لواء الثورة بعد أن خذله الحليف وتخلى عنه الصديق والشقيق. ولم تكن هذه المشاركة الأردنية الكثيفة في الثورة الكبرى وليدة الصدفة، بل جاءت نتيجة وعي مبكر عند الأردنيين لما يجري حولهم، وفوق أرضهم. بدليل ثوراتهم المتعاقبة على ظلم الدولة العليا. والتي كان آخرها ثورتي الطفيلة والكرك اللتين شكلتا أهم ارهاصات الثورة الكبرى ومقدماتها. واللتين تؤكدان على الوعي المبكر لدى الأردنيين لحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو وعي لم يأت عفو الخاطر فكل المؤشرات والدلائل تشير إلى عمق هذا الوعي. والى حالة النهوض والتنوير التي كان يعيشها قطاع واسع من الأردنيين. وإلا ما دلالات ثورة الكرك مثلاُ؟ وما دلالات وجود ضباط أردنيين برتب عالية في الجيش العثماني من أمثال اللواء علي نيازي التل، واللواء علي خلقي الشرايري، والضباط خلف محمد التل، وأحمد التل أبو مصعب ومحمد علي العجلوني وغيرهم. ألا يدل هذا وغيره على وعي مبكر لدى الأردنيين لأهمية العلم والتعليم بما في ذلك الالتحاق بالكليات العسكرية العليا، التي شكل الأردنيون من خريجيها نواة صلبة لجيش الثورة العربية الكبرى، ولجيش الدولة الأردنية الحديثة فيما بعد والذين خلدتهم ذاكرة الأردنيين من أمثال العجلوني وغير العجلوني من الضباط الأردنيين، الذين رفضوا أن يقع بلدهم في فراغ بعد سقوط دمشق بيد المستعمر الفرنسي، فنشطوا لملء هذا الفراغ. وعملوا على تلقف لواء الثورة، وجمع الناس حوله. ولعل رفض الأردنيين لحالة الفراغ هو الذي دفعهم لتشكيل حكوماتهم المحلية التي أدارت البلاد في الفترة التي سبقت قدوم الأمير عبد الله بن الحسين بن علي بناء على طلب زعماء البلاد من قائد الثورة وشريفها إرسال احد أبنائه لمواصلة الثورة والجهاد وقيام الحكومات المحلية ومراسلات زعماء البلاد مع الشريف حسين بن علي. لعل ذلك كله دليل على حجم الوعي لدى الأردنيين وعلى وجود زعامات سياسية وعسكرية واجتماعية وعشائرية قدرت مخاطر الفراغ فأخذت زمام المبادرة وواصلت السعي لتحقيق أهداف الحرية والسيادة والاستقلال عبر طرد المستعمر من بلادنا. وهذه كلها تؤكد أن الأردن لم يكن خالياً من السكان. ولم يكن خالياً من القيادات القادرة على إدارة الدولة. وهنا تبرز عظمة الأردنيين وإيثارهم لأبناء جلدتهم وقومهم ودينهم على أنفسهم عندما قبلوا عند قيام دولتهم الحديثة أن يشاركهم هؤلاء في حكم البلاد وإدارتها. بل وأن تزيد حصة غير الأردنيين في حكم البلاد وإدارتها عن حصة الأردنيين. ولم يكن ذلك لنقص في كفاءات الأردنيين وقدراتهم ومنهم من كان من كبار إداريي الدولة العثمانية وقادتها وضباطها العسكريين. ولكنه كان نزولاً من الأردنيين عند نزعتهم الوحدوية التحريرية. التي بسببها انخرطوا في الثورة الكبرى. مثلما كان نزول الأردنيين عن حقهم في حكم وإدارة بلادهم منطلقاً من فهمهم لدور ورسالة الدولة التي كانت تبنى في هذه البلاد. فالدولة الأردنية الحديثة قامت كقاعدة لاحتضان النضال العربي. من أجل وحدة الأمة وتحرير أرضها واسترداد حقوقها. فالدولة الأردنية الحديثة قامت كدولة رسالة ودور أهم ملامحه حفظ مقاومة الأمة للأطماع الاستعمارية والتصدي للمشروع الصهيوني على ذلك تعاهد الأردنيون، وعلى ذلك بايعوا وتبايعوا. ولم يكن ذلك كله تعاهدا ومبايعة ضمنية بل واضحة وصريحة، لا تحتمل التأويل ونصوص المعاهدات والمواثيق التي كتبها الأردنيون ووافقوا عليها، وشاركوا في إقرارها واضحة كل الوضوح في فهم الأردنيين لدور دولتهم الحديثة كجزء من مشروع النهوض الشامل للأمة الذي تشكلت هذه الدولة كقاعدة أساسية ومتقدمة له.
وحتى تستطيع الدولة الأردنية الحديثة القيام بدورها وأداء رسالتها، كان لا بد من أن يقوم كل فرد من مواطنيها بدوره على أساس العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والشفافية في العلاقة بين مكونات الدولة. لذلك كان أول ما اصطدم به الأردنيون وقاوموه هو محاولات إفساد الدولة وتغيب مبدأ العدالة والمساواة وتغيب مبدأ تكافؤ الفرص. والذي يقرأ أدبيات الأردنيين وفي طليعتها قصائد شاعر الأردن مصطفى وهبي التل عرار يدرك حجم وعي الأردنيين وحجم رفضهم للفساد والإفساد. ورفضهم لتغيب المبادئ التي قامت من أجلها وعليها دولتهم. وأهمها مبدأ العدل والحرية والنزاهة والشفافية. كما يدرك حجم تمسك الأردنيين بالحرية والديمقراطية وحكم الدستور ومبدأ فصل السلطات.
في ذكرى الاستقلال علينا أن نتذكر الركائز التي قام عليها الاستقلال، والوسائل الكفيلة بحماية هذا الاستقلال. وأول ذلك أن دولة الاستقلال هي دولة القانون والدستور. الذي لم يكن أحدٌ يجرؤ على تجاوزه والتحايل عليه. وقبل ذلك أن الدولة الأردنية الحديثة قامت لمواجهة المشروع الصهيوني من خلال استخلاص شرق النهر من الوعود البريطانية والأطماع الصهيونية أولاً. والتصدي لهذا المشروع غربي النهر. ولذلك لم يكن غريباً ولا مستغرباً أن تكون أول الصدامات مع المستعمرات الصهيونية في فلسطين من الأردنيين. وان يكون أول شهداء الصدام مع المستوطنات الصهيونية أردنيا. فقد كان الأردنيون أول من اشتبك بالسلاح مع قطعان المستوطنين في فلسطين استجابة لقناعتهم التي أقاموا عليها دولتهم الحديثة كرأس حربة في مواجهة المشروع الصهيوني. وحتى تقوى الدولة الأردنية على أداء دورها في مواجهة هذا المشروع الذي يتمدد اليوم فوق الأرض العربية، ويعربد في سمائها مهددا أمنها واستقرارها وفي الطليعة منه أمن واستقرار الأردن، عبر الكثير من الحلول التي يطرحها الكيان الصهيوني لتثبيت وجوده ومن بينها شطب حق العودة وتنفيذ مؤامرة التوطين ومشروع ما يسمى بالخيار الأردني؛ فان علينا أن نعود إلى القاعدة الأساسية التي قامت الدولة الأردنية الحديثة عليها و كما أرادها أبناؤها من الرواد المؤسسين. الذين أرادوا الأردن قاعدة متقدمة للنضال من أجل تحرير أرض الأمة واستعادة حقوقها، وتحقيق وحدتها، وبناء الدولة القوية العادلة القادرة. التي يعيش فيها الناس أحرارا كرماء لا يتدخل في شؤونهم غاصب أو دخيل وترتهن إرادتهم لمستكبر طامع. ويعيش فيها مواطنوها أحراراً متساوين متكافئين في الفرص والحقوق والواجبات ليحافظوا على منجزات دولتهم ويدافعوا عنها إذ جد الجد وحان الحين. فهي منجزات كلفت دماءً ودموعاً ونصباً وتعباً قبل أن تكلف مالاً، وبعض هذه المنجزات سبق الاستقلال وسبق حتى تأسيس الدولة الأردنية الحديثة. وكان من مقومات قيامها. ودليل ذلك أن بلديات مثل بلدية عمان وبلدية اربد تحتفل بمئوية تأسيسها قبل أكثر من ربع قرن على الاحتفال بمئوية تأسيس الدولة الأردنية. وكذلك الحال بالنسبة للتعليم وقطاعات أخرى مما يدلل على أن الأردن الحديث لم يقم على فراغ وأنه ليس كياناً مصطنعاً. فللأردن وللأردنيين جذور تمتد إلى آلاف السنين. أهلتهم لأن يكونوا من رواد وعي الأمة في بواكير القرن الماضي وأهلتهم لبناء دولة حديثة نحتفل بذكرى استقلالها لنذكر بدورها ورسالتها قاعدة لجهاد الأمة والسعي لتحقيق أهدافها الكبرى
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية