تنهد قليلا ،طأطأ رأسه ، سحب نفسا من سيكارته ، وبحسرة قالها أوف 000 أوف يا دكتور ، لو تعلم كم عانيت في ذلك السجن المظلم ، الغربة سجن كبير ، وألم عظيم ، لكن الأعظم أن تكون في سجن ضمن سجن ، في ذلك البلد الذي قصدته بغية العمل وجمع بعض المال لاعالة أسرتي وأبويا المريضين ، وجدت طعم الأمل والألم ، في البداية شعرت كأني في بلدي، وكيف لا والبلاد العربية كلها تنهل من نفس المعين ، معين الوطن الواحد والامة الواحدة التي كرمها الله بالإسلام فعز بها وعزت به ، شعرت بالناس من حولي أسرة واحدة رغم تعدد اللهجات واللكنات ، الكل هناك وافدون أجانب وعرب ، قصدوا تلك الديار من أجل العمل وتوفير لقمة عيش كريمة للأولاد والأسرة، هنا ك تعرفت إلى أصدقاء جدد أحببتهم وعشت معهم في نفس الغرفة لشهور عديدة ، أحد الذين تعرفت عليهم كان ضابطا كبيرا في ذلك البلد ، كان شخصا ودودا ولطيفا ، تبادلنا الزيارات وصرنا أصدقاء أعزاء ، كان متزوجا من إمرتين وكان يشتكي دائما من قلة راتبه، وكنت استغرب ذلك فإذا كان راتبه قليلاً، فماذا نسمي الرواتب عندنا ، على كل حال يا دكتور وحتى لا أطيل عليك ، توطدت الصداقة بيننا ، فطلب مني في احدى المرات أن أرافقه إلى أطراف المدينة وهناك شاهدت اراض جرداء مليئة بقطع الحديد المتبقي من البناء والمرمية دون حسيب أو رقيب ، وعرفت غاية صديقي الضابط انه يجمع تلك القطع ويبيعها ،وهكذا أخذنا نقصد المكان مرارا لنجمع قضبان الحديد التالفة ونبيعها فيربح هو ويزيد من وارده المالي واحصل أنا على بعض النقود ، تعيلني على حياة الغربة والترحال ، و في إحدى الصباحات الباكرة ، طلب مني الذهاب معه إلى منطقة بعيدة تسمى مكب السيارات وهناك حثني على جمع ما أستطيع من قطع السيارات الصالحة ،حيث من المعروف إن السيارات عندهم رخيصة فبدل من إصلاحها يرمونها ويشترون أخرى جديدة ، حمَلنا البيك اب بقطع السيارات وتوجهنا إلى المدينة أنا والضابط ، وفي الطريق أوقفتنا إحدى دوريات البوليس وصادرت السيارة واقتادتني إلى إحدى السجون ، بتهمة السرقة حيث بقيت مسجونا هناك ثلاثة أشهر، بعدها تم ترحيلي لاعود إلى وطني خالي الجيوب بل مديوناً وها أنا ذا يا دكتور بطال عطال لا حول لي ولا قوة ، وماذا حصل للضابط سألته ؟ لقد أوقف مؤقتا عن العمل ثم عاد حسب علمي إلى عمله السابق بعد أن نزلت رتبته .
لا ادري لماذا أردت سرد هذه الحكاية، لربما لغرابتها أو ربما لمأساويتها ،للمهالك التي تحصل لشبابنا الحالمين بالهجرة إلى بلدان بعيدة لتحسين ظروف عيشهم وتامين حياة افضل لهم ولأولادهم ، وما القصة الأخيرة للقارب الذي غرق قبالة الشواطئ الليبية وغرق أسرة سورية بأكملها إلا فصلا من الفصول المأساوية لهذه الحكاية الطويلة، ففي بلاد يرزح فيها المواطن تحت كاهل الفقر والبطالة وفقدان الأمل بالمستقبل ، يسهل الغش وبيع الأحلام ، فالمهربون الكبار وسماسرة البشر يأملون الناس بالحياة الرغيدة في البلدان الغنية ، يصنعون لهم الجنان ويعبدون لهم الطرقات إليها، ليصطادوا وبالحيلة كل ما في جيب الفقير من مال مدخر لأجل المستقبل، ليكتشف الفقير في النهاية أن حلمه ما هو إلا سراب فإما الموت في قاع البحار غرقا ،وإما حياة الكامبات أو العمل المضني في المطاعم والبارات ، لسنا نعتب عليهم فذاك وطنهم ونحن وافدون عليهم ، لكن ماذا بالنسبة لوطننا ،وطننا ارض الخير والنماء ،فهاهنا ينبت الذهب الأصفر ويفور الذهب الأسود ، لا تنقصنا العقول والسواعد ، وهاهم أطباؤنا ومهندسونا وعلماؤنا وعمالنا ينتشرون في كل بقاع الأرض ويعملون في كل المجالات ليبدعوا ويصنعوا ما لا يستطيع غيرهم صنعه وبأجور ورواتب زهيدة مقارنة بمواطني تلك البلدان ، لدينا اكثر من عشرة ملايين مغترب ولدينا مئات الملايين من الأموال المهاجرة ولدينا وطن يحتاج لتكاتف الجهود ، وطن يحتاج إلى تشريعات لتشجيع المغتربين بالعودة والاستثمار في البلد، ويحتاج إلى تشريعات وجهود وحوار مع بلدان المهجر لحماية عمالتنا المهاجرة والمغتربة من الاستغلال من قبل أصحاب العمل هناك ،ومن العمل في ظروف قاسية وبأجور متدنية ، وقبل كل هذا وذاك نحن بحاجة ماسة إلى وضع البرامج والخطط لا قامة المشاريع المختلفة التي تؤمن للمواطن في بلده فرص عمل جيدة وبأجور تتناسب مع مجهوده وشهاداته العلمية مما يجنبه الوقوع في فخ السماسرة وتجار البشر الذين لا يتوانون عن عمل أي شيء في سبيل جمع المال بعد المال ، لملء أرصدتهم في بعض البنوك العالمية القائمة على تبيض الأموال وغسلها دون النظر إلى مصادر ذلك المال وطرق الحصول عليه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية