أخيراً يبدو أن الأوامر صدرت لإعلام النظام بالالتفات إلى وفاة الفيلسوف الكبير الراحل "الطيب تيزيني" بعد أن صمتت أقلام أبواقها عن ذكر خبر رحيله، وتبدو الأوامر واضحة فقط بالحديث عن تاريخه العلمي ومؤلفاته، واقتطاع أجزاء من حواراته العامة دون التطرق للثورة السورية وموقفه من النظام بشكل عام.
جريدة "الوطن" المملوكة لرامي مخلوف عنونت في صفحتها الثقافية (بعد رحلة عطاء فكرية ثرية يغادر الطيب تيزيني … لست غاضباً ولا محبطاً ولا يائساً كل الأمل أملكه وسورية ستدافع عنها البشرية بأكملها)..
المادة العابثة ابتدأت بالحديث عن دموع الطيب تيزيني: (أحلامي لم تتغير، سورية هي حلمي، لا أملك حلماً آخر)...ولكنها لم تجرؤ على التلميح لدموع الطيب على مجزرة ساحة حمص التي بكاها الراحل وبكى معها 1300 شاب وفتاة تم قتلهم بدم بارد.
لم تجرؤ صحيفة مخلوف على ذكر ما قاله الطيب في المؤتمر التشاوري في العاشر من تموز يونيو/2011عن تحريم الرصاص على كل سوري وعن لعلعلة الرصاص في حمص وحماة بداية الثورة، وتفكيك الدولة الأمنية كشرط لا بديل عنه، وهي التي فككت البلاد فيما بعد بالرصاص القتل والطائفية.
لم تجرؤ الصحيفة عن ذكر ما جاء في مداخلة الطيب حول إخراج المساجين وهم بالآلاف، وبناء دولة القانون التي انتهكت كما قال حتى العظم، وأما السجناء فقد صاروا بمئات الآلاف وانتهكت أرواحهم تحت التعذيب في هولوكوست لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
الصحيفة وصفت دموع الطيب كما لو أنها انسكبت على بشار الأسد وجيشه ووطنه المتجانس: (لطالما الدموع انهمرت دون أي خجل، تشق طريقها على الوجنتين لتعبّر عن أسمى العواطف والشجون. هي بحبها العميق أوجعته، وما حلّ عليها من سواد ظلمات لم يكسره رغم الأحزان، لكنه قرر بأنه سيبقى في سوريته، مواجهاً الأزمة مع كل أمين على هذا الحب العميق).
ثم انتقلت إلى توصيف حياة الطيب على أنها انتظار لانتصار سوريا الأسد: (متمسكين بالأمل بأن سورية لن تسقط وإن حصل -وهو أمر مستبعد- فسيسقط معها العالم بأسره، عاش المفكر والباحث الطيب تيزيني على أمل أن ينتهي زمن الحرب، وبأن أبناء سورية سيعيدون بناءها).
أما حياته الخاصة فيما بعد فكانت مجرد انكباب على العلم لا على الحصار الذي فرض على الطيب ليصمت أو يرحل: (منكبًّا على كتابة سيرته الذاتية، بمساعدة ابنته الباحثة الاجتماعية منار تيزيني، التي واظبت على تحرير السيرة، وعلى تنظيم مواعيد الدواء، كما أشرفت على مراسلات الأب مع مؤتمرات ولقاءات وندوات دولية).
المقال إلى آخره يتابع سيرة الطيب في دراسته وعلاقته بمدينة حمص، وكلماته حولها على أنها مدينة الثقافة والعلم دون أن تذكر ما آلت إليه المدينة من خراب، وما هو مصير مئات الألوف من أبنائها الذين شردتهم طائفية جيش الأسد وعصاباته الرديفة، وكذلك ما أسمته علاقة الطيب بسوريا الغالية التي اقتصت من أحد حواراته مع جريدة الأخبار: (هذا ينذر بأن سورية قد تمزقت، لكن هذا لن يحدث. سورية في لحظة واحدة يمكن اكتشافها متآخية حتى الثمالة، حيث لا يستطيع هؤلاء الأغراب أن يأخذوا ما يأخذون).
دموع الطيب وكلماته ستبقى تحاصر القتلة وأبواقهم، وجنازته المتواضعة تشي بما فعلوه بحمص وأهلها وبأحباب الطيب المتناثرين في أصقاع الأرض.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية