عندما تنتشر ثقافة العنف في المجتمع الغزي، تتولد قيم سلبية خطيرة لدى المواطنين، ويدفعون الثمن باهظاً، والقضية هنا ليست فقط قضية تبني أنماط حياة راقية تحمي المواطنين من الخشونة والغلظة في التعامل، بل هي كذلك قضية مواجهة الانعكاسات الخطيرة لانتشار ثقافة العنف على كل جوانب الحياة في المجتمع الغزي.
فانتشار العنف في المجتمع يولد قيم اجتماعية ووطنية سلبية خطيرة ينتج عنها سلوكيات تضر بالمواطَنة الصالحة وتعزز الأنانية لدى المواطنين، ما يجعلهم يعيشون في عراك مستمر مع بعضهم البعض، في الشارع والأسواق والمدارس والجامعات، وحتى في المساجد، ولا سيما أن الغزيين يعيشون ظروفاً قاسية في منطقة ضيقة مكتظة جداً بالسكان، ويتعرضون لقمع العدو الصهيوني وممارساته الإجرامية وخصوصاً الحصار. ومن أخطر تلك القيم السلبية: الاستخفاف بالحياة الإنسانية، الأنانية وإيثار النفس على الآخرين، تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، عدم المسؤولية، كره الآخرين، الاستقواء المنطوي على الاستخفاف بحقوق المواطنين الخاصة والحقوق العامة، اتخاذ الاعتبارات الشخصية والحزبية مرجعية للمواقف والسلوك.
وهذه القيم السلبية موجودة في المجتمع الغزي منذ سنوات عديدة، ولكنها تكرست في المجتمع الغزي في السنوات الأخيرة بسبب الحصار والحرب الصهيونية على غزة، ونتج عنها أنماط سلوكية خطيرة وهلع دائم لدى نسبة كبيرة من المواطنين. فمثلاً، يستخدم المزارعون الغزيون الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية والهرمونات الزراعية بطريقة غير صحية وغير قانونية، ولا يتبعون شروط استخدام تلك المواد، وذلك لزيادة المحصول الزراعي وتسريع إنضاج الثمار، ما يؤدي إلى إصابة المواطنين بأمراض عديدة، وزيادة معدل الإصابة بأمراض السرطان في المجتمع الغزي لحد يفوق أمثاله في مناطق أخرى من العالم العربي.
واعتاد الغزيون على التقليل من أهمية الإجراءات الوقائية لضمان السلامة في كثير من جوانب الحياة، ما يؤدي إلى وفاة أعداد كبيرة وإصابة آخرين بإصابات متفاوتة من حيث خطورتها. ففي كل عام يسقط العشرات من المواطنين قتلى بسبب قيادة الدراجات النارية بطيش ودون التزام بقوانين القيادة وإجراءات السلامة والوقاية، وذلك رغم تكثيف شرطة المرور لحملة مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، وملاحقتها للعابثين بحياة المواطنين وحياتهم.
ولا يقتصر تقليل الغزيين من أهمية إجراءات الوقائية والسلامة على الجوانب المدنية، بل يشمل كذلك الجوانب الأمنية والعسكرية، ولا سيما إبان العدوان الصهيوني، حيث يتهافت المواطنون على الموت تهافتاً. فمنهم من يندفع بصورة جنونية نحو الأماكن والسيارات المقصوفة، معرضين أنفسهم للهلاك. ومن المقاومين من يستهتر بالتعليمات الأمنية التي يزودها به قادته، فيصبح عرضة للاغتيال بسهولة، ومنهم من يستخدم صواريخ محلية الصنع غير متقنة الصناعة والتوجيه، فترتد على بيوت المواطنين، وتقتلهم وتصيبهم. وهناك حوادث عديدة أدى إليها التعامل غير الحكيم أو العبثي مع المتفجرات والصواريخ، ولكن مع الأسف الشديد، لا توجد معلومات إحصائية دقيقة وموثقة حول الحوادث المدنية والعسكرية.
قيادة السيارات فن وذوق، ولكنها في غزة فوضى وعنف، حيث يتبع السائق عند قيادته لسيارته سياسة "لي الأذرع" مع السائقين، فيأخذ حقه وحق غيره من السائقين والمارة، ويتوقف في الطريق أو يسير في الاتجاه المعاكس دون أي ضوابط، ناهيك عن فوضى العربات التي تجرها البغال والحمير، ما يسبب معاناة قاسية للمواطنين، ويساهم في تكريس القيم السلبية. ومن المعلوم أن هناك فئة من العملاء أسند إليهم العدو الصهيوني مهمة تنغيص الحياة على الفلسطينيين، عبر نشر الفوضى وانتهاك القانون وإفساد النظام، لأن مجتمع تسوده الفوضى والعنف لا يمكن أن ينتصر.
إن قدرة شعبنا الفلسطيني على حسم الصراع مع العدو الصهيوني مرهونة بنجاحنا في بناء جيل فلسطيني يتسم بالوعي والعلم والإيمان، فكما يقول أستاذ الجغرافيا الصهيوني أرنون سوفير: "إن السيادة على أرض (إسرائيل) لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية، بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة".
24/4/2009
جوانب معتمة للحياة في غزة (3) انعكاسات خطيرة لانتشار ثقافة العنف
أ.د. محمد اسحق الريفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية