أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

موعد طبي ... حسن بلال التل

القارئ العزيز ارجو ان (اتطول روحك علي شوي) وتقرأ هذا المقال القصة فكل ما فيه صحيح....
بعد طول عناء وايام من المحاولات الفاشلة سمع تلك الرنات السحرية لرقم هاتف الطبيب الاختصاصي المشهور، على الجهة الاخرى اجابته سكرتيرة ذات صوت رخو، وبمنتهى البرود حددت له موعدا في تمام الساعة الواحدة والربع بعد شهرين واربعة أيام!!! حاول ان يشرح لها معاناته لكنها رفضت مجرد الاستماع، حاول ان يفاوضها على ان يأتي الى العيادة دون موعد عله يحظى بالرضى، لكنها اكدت له ان لا احد يدخل العيادة بلا موعد، والطبيب يحترم مواعيده الى حد التقديس، ومن المستحيل ان يقبل برؤيته الا ان كانت حالته طارئة جدا!!
سلم امره لله وصبر على آلامه التي طالت لسنوات ولم يفلح احد في علاجها حتى وُصف له هذا الطبيب الذي شُبّه له بالسحرة لشدة مهارته، وأخذ طوال شهرين واربعة ايام يحلم بالموعد المنشود متخيلا كيف سيصل الى عيادة انيقة حيث سيُحسن استقباله، ولن يعاني من جديد من ازدحام العيادات التي لا تراعي المواعيد والدخول فيها بالدور او (بالبخشيش)، ولعن ألف مرة اولئك الاطباء الذين كانوا لا يحترمون مواعيدهم ويجبرون المرضى على الانتظار لساعات في غرف ضيقة او ممرات باردة بين عيادات ومكاتب تجارية عديدة في مجمعات ومبان أكل عليها الدهر وشرب، وتذكر كم مرة اضطر فيها لان ينتظر واقفا (وهو المصاب بأمراض المفاصل والتهاب الركبتين) ريثما يعود الطبيب من مشوار (خاص)، او من اجراء عملية، او يخرج من عنده مريض بقي في الداخل لساعات ليتبين فيما بعد انه ابن اخت الطبيب، وان المحروس اشتهى ان يشرب فنجان قهوة مع (خالو) الذي لم يقصّر في ترك العشرات من المرضى ينتظرون فيما يدردش مع ابن اخته العزيز حول اسعار البورصة وفرص الاستثمار العقاري ومقدار ما انخفضت ارباح السياحة العلاجية!!!
وبعد خمسة وستين يوما مرت طويلة، بطيئة، قاسية، جاء اليوم المنشود، والذي لأجله لم يبق واسطة ولا جاهة الا ووجهها الى مديره كي يسمح له بأخذ اجازة بعد ان تجاوز حدود كل الاجازات المرضية والسنوية والفلكية ايضا، ركب سيارته التي توقف عن سياقتها منذ اصابه المرض اللعين حيث لم تعد رجلاه تتحملان مجرد استخدام دواسات السيارة، لكن لأجل هذه المناسبة العظيمة فقد تحامل على نفسه وأتى بالمحروسة سائقا من المنزل ومن ثم الى عيادة الطبيب، قبل الموعد بخمس دقائق اوقف سيارته على باب المبنى الانيق، نزل من السيارة وتوجه الى الداخل، التقط رقم العيادة والطابق الذي تقع فيه، وتوجه نحو المصعد، ضغط زر طلب المصعد وبعد عدة دقائق من الانتظار تقدم منه احد العاملين بالمبنى ونبهه الى ان المصعد معطل منذ شهور، كاد يهلك من مجرد التفكير في صعود الطوابق الثلاثة لكنه سلم امره لله وبدأ بالصعود ويده على قلبه خشية ان تأخير هذه الدقائق سيكلفه موعده الثمين.
منقطع الانفاس وصل الى الطابق المنشود حيث فاجأه منظر العشرات من الرجال والنساء كبارا وصغارا متجمهرين في ممر بارد بين عدد من المكاتب التجارية والعيادات الطبية، لكنه ازاح هذه الصورة من مخيلته محاولا اقناع نفسه ان هؤلاء في انتظار طبيب آخر، توجه نحو باب عيادة طبيب الاختصاص المشهور، دلف الباب الى غرفة استقبال ضيقة تغص بالبشر ودخان السجائر، وقف حائرا لعدة دقائق خصوصا بعدما شاهد باب مكتب الطبيب مفتوحا ولا احد في الداخل، اقترب من السكرتيرة وسألها عن الطبيب فأجابت بذات الصوت الرخو والبرودة انه في العمليات منذ الصباح ومن المتوقع وصوله في اية لحظة، نظر نحوها باستغراب وسأل وفكّه يكاد يلامس صدره مما سمع: وهل سيمكنه ان يعاين كل هؤلاء المرضى بعد ان يكون قد استنزف كل جهده في الجراحة والعمليات منذ الصباح؟ لا تؤاخذيني ولكن هذا الطبيب انسان وليس رجلا آليا أليس كذلك؟؟ .... نظرت نحوه باشمئزاز واجابت: لا تخف فهذا حاله كل يوم وهو يعاين العشرات دون ان يشكو!!!، لكن لماذا اعطيتني موعدا بعد شهرين طالما ان الحال كذلك؟... سأل وهو يشعر بقلبه يكاد يتوقف... لزوم البرستيج!!... اجابت بذات البرود.
صمت وانسحب الى الوراء بهدوء مسلما امره لله، وقف قليلا ثم بدء يتجاذب اطراف الحديث مع زملاء السخرة الطبية ليكتشف ان بعضهم ينتظر منذ ساعات وآخرين يراجعون منذ ايام دون ان يتمكنوا من رؤية الطبيب، ما دفعه الى ان يتوجه الى السكرتيرة مرة اخرى ليطمئن على مصيره، حيث قالت له: لا تخف انت من اصحاب المواعيد وبالتالي لا بد ان تقابل الطبيب اليوم وان لزم الامر ان تنتظره الى منتصف الليل!!!.. لماذا وكم موعدا هناك قبلي؟؟.... سألها..... حوالي العشرة وصلوا حتى الآن!!!، وكم يستغرق معاينة كل من هؤلاء؟؟؟ حوالي 10 دقائق الى ربع ساعة.
دارت الدنيا به عندما اكتشف انه سيضطر للبقاء واقفا لمئة وخمسين دقيقة على الاقل، هذا ان وصل الطبيب في تلك اللحظة تماما.
ادار ظهره وخرج من العيادة واتصل بأحد اصدقائه المصابين بذات علته وطلب منه ان يحدد له موعدا مع طبيبه الذي يراجعه في دولة شقيقة طالما قال هو عنها انها دولة متخلفة طبيا ووصف اطباءها بالتلاميذ في مدرسة الطب المحلي، بعد دقائق اتصل به صديقه وقال له ان الطبيب يمكنه ان يستقبله اليوم مساء او غدا صباحا ان كان الأمر طارئا!
وبلا تردد ادار سيارته باتجاه نقطة الحدود نحو عيادة الطبيب المتخلف طبيا ، وعندما وصل فوجئ بأن كل احلام اليقظة التي راودته عن الطبيب المحلي قد تحققت لدى نظيره المتخلف ، العيادة انيقة وهادئة، والدخول بالموعد فقط، والطبيب يفرّغ أياما من الاسبوع للجراحات والعمليات وأياما اخرى للمرضى في العيادة، عدا عن انه يستقبل عددا محددا من الحالات يوميا لا يزيد عليه، ويمنح نفسه بضع دقائق للاستراحة بين كل بضعة مرضى حتى يكون بأتم استعداد لتقرير مصير هذا الانسان الداخل اليه، والسعر لا يكاد يصل الى نصف ذلك الذي طلبه الطبيب الاول، وفي ظرف دقائق كان الطبيب قد شخص الداء ووصف الدواء وطمأنه انه لا داعي لأن يكلف نفسه عناء الزيارة ثانية ويكفي ان يتصل به عبر الهاتف.
خرج من عيادة الطبيب وهو يكفر بالطب الاردني، والاطباء الاردنيين لانه لاول مرة يكتشف انه طوال سنوات كان يعامل كزبون واحيانا كخروف في مسلخ، ولأول مرة يحس بمعنى ان يكون مريضا في حضرة طبيب... اغرورقت عيناه بالدموع بينما شغّل سيارته وتوجه نحو نقطة حدود جابر عائدا الى عمان

(102)    هل أعجبتك المقالة (112)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي