أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من الوحدة والتضامن إلى إدارة الخلافات العربية ... نضال نعيسة

 

 

تضاءل مفهوم، وقوة فكرة الوحدة العربية يوماً بعد آخر، وخبا بريقها، بعد ممارسات وحدوية استبدادية ومؤلمة قدمت الوجه الأسوأ لما يمكن أن تكون عليه الدولة الوحدوية العتيدة من دولة شمولية مستبدة لا إنسانية وغير تقدمية وتضع الإنسان كقيمة مطلقة في آخر اهتماماتها. كما كان لتقدم الحياة، بشكل عام، وانفتاح الآفاق البشرية على بعضها، واستنباط مفاهيم وآليات جديدة للعيش بعيدة، كلياً، عن روح القبلية السياسية والشوفينية العنصرية التي حاولت تلك الفكرة أن تجسدها في عقول الناس، الأثر الأكبر في خفوت البريق الوحدوي، وإدراك أن هناك عوامل أخرى للقوة والازدهار غير ذاك الطرب والضجيج القبلي والشوفيني العنصري الذي أتحفنا به القوميون العرب. وأظهرت الوقائع والأحداث أن هناك شعوباً وأمماً أكثر حرصاً واهتماماً ودعماً لما يسمى بالقضايا العربية من بعض العرب، أنفسهم، إن لم يكن من جلهم. كما تراجع، اليوم، دور الجامعة العربية التي كانت الحاضن التنظيمي لذاك المفهوم إلى أدنى مستوياته، بحيث أصبحت عبئاً وحمولة زائدة على الوضع العربي العام، ورمزاً، آخراً، من رموز الخلافات والاستقطابات السياسية والاصطفافات العربية المتباينة، وفشلت في أن تكون طرفاً حيادياً وجامعاً للعرب. وتبدو اليوم في عهد أمينها العام السيد عمرو موسى بلا أية فاعلية، وجرماً خانعاً، وتابعاً دائراً في فلك هذا النظام السياسي أو ذاك.

 

وتنعدم اليوم أية إمكانية لتحقيق تلك الفكرة الوحدوية الطوباية التي ألهبت وأشعلت الشارع العربي في يوم ما، وذلك بسبب بروز الكثير من المعوقات اللوجستية، والسياسية، والإيديولوجية، وبروز وتضخم الأنا والمصالح القطرية الخاصة، والتي تتعارض، كلياً، مع ما يسمى بالمصالح القومية العربية، واستفحال الطبقية كعامل شرذمة وتفريق جديد، بين ما يسمى العرب في ظل انبثاق واقع العرب الأغنياء، والعرب الفقراء.

 

هذا، وقد برز في يوم من الأيام مصطلح التضامن العربي، في ذروة حالة من التفكك والانقسام والتشرذم العربي المعهود، ليكون بمثابة الحد الأدنى المطلوب، هو الآخر، يخفي وراءه أحلام وحدة موءودة ومجهضة وعصية على التحقيق. ولم يستطع ذاك المفهوم أيضاً في استحداث أي نوع من التوازن المطلوب في العلاقات العربية العربية بل استشرت ووصلت حد القطيعة الدبلوماسية بين أطراف عربية فاعلة. وجسـّد خروج مصر عن الإجماع العربي، وتوقيعها لاتفاقيات كامب ديفيد، واحداً من أهم أوجه انهيار ما عرف بالتضامن العربي، الذي اعتبر كبديل موضوعي، مرحلي ومقبول، لحلم الوحدة الأكبر الذي داعب خيال العروبيين في فترة ما. وقد أظهرت التطورات اللاحقة على ساحة الإقليم تباينات جذرية وحادة في مقاربة الكثير من الأحداث، والتطورات، والملفات المطروحة بين مختلف الأطراف العربية الفاعلة، ما أظهر حالة من الاستقطاب المريع، وغير المسبوق، أدى لظهور عيوب وقصور واستحالات أيضاً فيما عرف بآلية التضامن العربي، وأفضى ذلك كله، لاحقاً، لانهيار تام للمحاور العربية التقليدية التي شكلت قاطرة، وقائدة للعمل العربي المشترك والتضامن العربي لفترة طويلة. وتعرض العمل العربي لحالة من الشلل التام مع تفاقم تلك الخلافات، واستحالة التوصل لصيغة ورؤية توافقية تلبي مصالح وتطلعات جميع الأطراف. وهنا برزت الحاجة البراغماتية، والواقعية السياسية للاعتراف بهذه الاختلافات كواقع قائم والتعايش معها إلى ما شاء، وحتى يقضي، الله أمراً كان مفعولاً، واستحداث مفاهيم وآليات لتفعيل أي قدر من العمل العربي المطلوب عبر استحضار آلية إدارة الخلافات العربية، وفي هذه الحالة، سنشهد أيضاً تراجعاً بدرجة أخرى، وانخفاضاً للمنسوب والزخم القومي والوحدوي، وابتعاداً أيضاً عن الحلم والوميض القومي الكبير. 

 

وإدارة الخلافات العربية، تعني في أحد وجوهها الظاهرية، طالما أنه لا يمكن حسم أو تجاوز وحل الخلافات العربية العربية المستعصية على الحل، وأنه لا يمكن، أيضاً، الانتظار لحين حدوث المعجزات السياسية، فلم لا يتم التعايش، والتآلف معها كواقع قائم، والتقدم من خلالها، والكف، مؤقتاً، عن ممارسة طقوس العنجهية والغطرسة القومية العربية الشمولية التي تسوق أضاليل المصالح، والأهداف، والآمال، والمصائر المشتركة لما يسمى بالعرب، في سبيل التخلص من حالة الشلل التي أصابت كل مفاصل العمل والحركة السياسية والدبلوماسية العربية، وجعلت العرب ككتلة سياسية منفعلين وغير فاعلين في الفضاء العالمي.

 

وإذا كانت إدارة الخلافات العربية، فكرة سورية، أم غير ذلك، فإن ذلك لا يغير من واقع أنها فكرة الحد الأدنى المرحلية المنطوية على براغماتية وعملية وواقعية تعويضية تعبر عن واقع الحال المزري، وتشكل، بدورها، بديلاً مؤقتاً لطموح سالف وفكرة طوباوية وسوريالية يبدو أن شروط تحقيقها، لم تتوفر بعد، ولا يبدو أنها ستتوفر في المستقبل القريب، في فضاء يعج بمختلف الأهواء، والأمزجة، والمصالح، والاهتمامات، أصبح فيه كل طرف، كحال قول أحد الشعراء: كل يغني على ليلاه.

 

وقد تبدو على "علاتها" وسوداويتها، ورغم تحفظ البعض عليها، مرحلة طيبة وجيدة، ستحنّ لها، وتناضل من أجلها الأجيال القادمة، "لاحقاً"، في ظل طبائع وتكوينات ومناخات واستقطابات واصطفافات معقدة ومتشابكة وإشكاليات أخرى مستعصية لا تكف، بدورها، عن إفراز، وإنتاج المزيد والمزيد من آليات التشرذم، والتفكك، والانقسام.

 

(93)    هل أعجبتك المقالة (84)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي